وألطف من هذا أن يكتفى بعلم الله ، فيشتغل بمولاه ، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان ، فيكل أمره إلى الله ، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه : التفويض ، وهو أن يكل أمره إليه ، ولا يختار حالا على حال ، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه ، يعلم أنه مملوك لسيّده ، والسيّد أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وجد الراحة فى المنع ، ويستعذب ما يستقبله من الرّدّ ، فهى رتبة الرضا ، ويحصل له فى هذه الحالة ، من فوائد الرضا ومطالعته ، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة فى وجود المقصود.
وبعد هذا : الموافقة ؛ وهو ألا يجد الراحة فى المنع ولا فى العطاء ، وإنما يجد حلاوة نسيم القرب ، وزوائد الأنس بنسيان كل أرب. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند برد الرضا ـ ويعدّون ذلك حجابا ـ كذلك أهل الأنس بالله يعدّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصانا وحجابا. ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة ، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية ، فيعبر عن هذه الحالة بالخمود ، والاستهلاك ، والوجود ، والاصطلام ، والفناء ، ـ وهذا هو عين التوحيد الخاص ـ فعند ذلك لا أنس ، ولا هيبة ، ولا لذة ، ولا راحة ، ولا وحشة ، ولا آفة. يعنى : تغيب المقامات بلذاتها وراحتها ، عند تحقق الفناء ، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم ، فأمّا ما دون ذلك ؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين ، على تباين شرفهم ، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضا : ويقال : التوكل فى الأسباب الدنيوية ينتهى إلى حدّ ، وأما التوكل على الله فى إصلاح آخرته : فهو أشدّ غموضا وأكثر خفاء ، فالواجب ، فى الأسباب الدنيوية ، أن يكون السكون عند طلبها غالبا ، والحركة تكون ضرورة ، وأما فى أمر الآخرة وما يتعلق بالطاعة ، فالواجب البدار والجدّ والانكماش ، والخروج عن أوطان الكسل ، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني فى العبادات والتباطؤ فى تلافى ما ضيّعه من إرضاء الخصوم ، والقيام بحقّ الواجبات ، ثم يعتقد فى نفسه أنه متوكّل على الله ، فهو متمن معلول الحال ، ممكور مستدرج ، بل يجب أن يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه ، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستند إلى سكونه وحركته ، ويتبّرأ من حوله وقوّته ، ثم يحسن الظنّ بربّه. ومع حسن ظنه بربّه لا ينبغى أن يخلو من مخافته ، اللهم إلا أن يغلب على قلبه ما يشغله فى الحال ؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة فى العواقب ؛ فإن ذلك ـ إذا حصل ـ فالوقت غالب ، وهو أحد ما قيل فى قولهم : الوقت سيف. ه.
ثم ذكر من أوصاف الرحمن ، الذي نفر المشركون عن الخضوع له ، ما يبين عظمته وكبرياءه ، ونفوذ قدرته المستوجبة للخضوع والانقياد له ؛ ردا على امتناع الكفرة منه ، فقال :
(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))