القدس ، فحيئنذ يحرس منه ، لقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (١). وعباده الحقيقيون هم الذين تحرروا مما سواه ، فلم يبق لهم فى هذا العالم علقة ، وهم المرادون بقوله تعالى : (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وما سلّطه علهم إلا ليتميز الخواص من العوام ، فلو لا ميادين النفوس ، ومجاهدة إبليس ، ما تحقق سير السائرين ، أي : وما كان له عليهم من تسلط إلا لنعلم علم ظهور من يؤمن بالخصلة الآخرة ، وهى الشهود ، ممن هو منها فى شك ، (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وبالله التوفيق.
ولمّا كان تسلط إبليس جله من الشرك ، الذي زيّنه لهم ، رده بقوله :
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))
قلت : حذف مفعولى زعم ، أي : زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون الله ، بدلالة السياق عليهما.
يقول الحق جل جلاله : (قُلِ) لهم (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : زعمتموهم آلهة ، فعبدتموهم من دون الله ، من الأصنام والملائكة ، وسميتموهم باسمه ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم ، كما تلتجئون إليه فى اقتحام الشدائد الكبرى. وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته. وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها. ويروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشا. ثم ذكر عجزهم فقال : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شر ، ونفع أو ضر (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي : وما لهم فى هذين العالمين ؛ العلوي والسفلى ، من شرك فى الخلق ، ولا فى الملك ، (وَما لَهُ) تعالى (مِنْهُمْ) ؛ من آلهتهم (مِنْ ظَهِيرٍ) ؛ معين يعنيه على تدبير خلقه. يريد أنه على هذه الصفة من العجز ، فكيف يصحّ أن يدعوا كما يدعى تعالى ، أو يرجوا كما يرجى سبحانه؟
ثم أبطل قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٢) بقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) تعالى فى الشفاعة ، ممن له جاه عنده ، كالأنبياء ، والملائكة ، والأولياء ، والعلماء الأتقياء ، وغيرهم ممن له مزية عند الله. وقرأ
__________________
(١) الآية ٤٢ من سورة الحجر.
(٢) من الآية ١٨ من سورة يونس.