يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أي : أوحينا إليك القرآن ، وأورثناه من بعدك ، أي : حكمنا بتوريثه (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، وهم أمة محمد صلىاللهعليهوسلم من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم ، ومن بعدهم إلى يوم الدين ؛ لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطا ؛ ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله. قال ابن عطية : الكتاب هنا يراد به معانى القرآن وأحكامه وعقائده ، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن ، وهو قد تضمن معانى الكتب المنزلة قبله ، فكأنه ورّث أمة محمد الكتاب الذي كان فى الأمم قبلها. ه.
ثم رتّبهم مراتب ، فقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالتقصير فى العمل به ، وهو المرجأ لأمر الله ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) ، بأن جمع بين علمه والعمل به ، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث ، فقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر ـ بعد قراءة هذه الآية : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له» (١) وعنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة ، والظالم يحبس ، حتى يظن أنه لن ينجو ، ثم تناله الرحمة ، فيدخل الجنة» رواه [أبو الدرداء] (٢). وقال ابن عباس رضي الله عنه : السابق ، المخلص ، والمقتصد : المرائى ، والظالم : الكافر النعمة غير الجاحد له ، لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس : الظالم : صاحب الكبائر ، والمقتصد : صاحب الصغائر ، والسابق : المجتنب لهما. وقال الحسن : الظالم : من رجحت سيئاته ، والسابق : من رجحت حسناته ، والمقتصد : من استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون. وأما صفة الكفار فبعد هذا ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) (٣). وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده ؛ لأنه قال : فمنهم ، ومنهم ، ومنهم ، والكل راجع إلى قوله : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) فهم أهل الإيمان ، وعليه الجمهور.
وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم ، وأنّ المقتصد : قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل : إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربّه. وقيل : لأن أول
__________________
(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٤٧٣) لسعيد بن منصور ، وابن أبى شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي فى البعث ، موقوفا على سيدنا عمر. وأخرجه البغوي فى تفسيره (٦ / ٤٢١) مرفوعا. وعزى السيوطي المرفوع للعقيلى فى الضعفاء (٣ / ٤٤٣) وبن لال ، وابن مردويه ، والبيهقي.
(٢) فى الأصول : [أبو داود] والصواب ما أثبت ، قلت : والحديث أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ١٩٤ ، ١٩٨ و ٦ / ٤٤٤) ، قال الهثيمى فى المجمع (٧ / ٩٦) : «رواه أحمد بأسانيد ، رجال أحدها رجال الصحيح». وأخرجه الحاكم (٢ / ٤٢٦) والطبري (٢٢ / ١٣٧) والبغوي فى التفسير (٦ / ٤٢١) كلهم من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه.
(٣) الآية ٣٦ من سورة فاطر.