أرسلناك لتنذر قوما غافلين ، (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي : غير منذر آباؤهم ، كقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (١) وقوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٢) أو : لتخوف قوما العذاب الذي أنذر به آباؤهم ، لقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (٣). أو : لتنذر قوما إنذار آبائهم ، وهو ضعيف ؛ إذ لم يتقدم لهم إنذار. (فَهُمْ غافِلُونَ) ، إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي ، أي : لم ينذروا فهم غافلون ، وإلا فهو متعلق بقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لتنذر قوما ، كقولك : أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، يعنى قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٤) أي : تعلق بهم هذا القول ، وثبت عليهم ووجب ؛ لأنه علم أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة : إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلا وعادة ، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به ، اعتبارا بظاهر الأمر ، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق ، ولا فائدة فيها ؛ لأنّ المكلفين قسمان : فمن علم تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة فى أمره بالايمان ؛ إذ لا يطيقه ، ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة فى إنذاره وأمره بالإيمان ؛ إذ لا يطيق عدمه. ه. قلت : الحكمة تقتضى تكليفهم ؛ لتقوم الحجة عليهم أو لهم ، والقدرة تقتضى عذرهم. والنظر فى هذه الدار ـ التي هى دار التكليف ـ للحكمة لا للقدرة.
ثم مثّل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين فى أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، وكالحاصلين بين سدّين ، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم ، بقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ، معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها ، (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) ؛ مرفوعة رؤوسهم إلى فوق ، يقال : قمح البعير فهو قامح ؛ إذا روى فرفع رأسه ، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي فى عنق المغلول ، يكون فى ملتقى طرفيه ، تحت الذقن ، حلقة ، فلا [تخليه] (٥) يطأطئ رأسه ، فلا يزال مقمحا. والغل : ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب. والأذقان والذقن : مجتمع اللحيين. وقيل : «فهى» أي: الأيدى. وذلك أن الغل إنما يكون فى العنق مع اليدين. وفى مصحف أبى : «إنا جعلنا فى أيمانهم أغلالا» وفى بعضها : «فى أيديهم فهى إلى الأذقان فهم مقمحون».
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ، بفتح السين وضمها ـ قيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله ، كالجبل ونحوه ، فالبضمّ ، أي : جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم ، فهم محبوسون
__________________
(١) الآية ٣ من سورة السجدة.
(٢) الآية ٤٤ من سورة سبأ.
(٣) الآية ٤٣٠ من سورة النبأ.
(٤) الآية ١٣ من سورة السجدة.
(٥) ما بين المعقوفتين مطموس فى النسخة الأم ، وغير موجود فى غيرها من النسخ المعتمدة فى التحقيق.