فى مطمورة الجهالة ، ممنوعون عن النظر فى الآيات والدلائل ، (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي : فأغشيناهم أبصارهم ، أي : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة ، (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحق والرشاد.
وقيل : نزلت فى بنى مخزوم ، وذلك أن أبا جهل حلف : لئن رأى محمدا يصلّى ليرضخّنّ رأسه ، فأتاه وهو يصلّى ، ومعه حجر ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ، ولزق الحجر بيده ، حتى فكّوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه ، فأخبرهم ، فقال مخزومىّ : أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب ، فأعمى الله بصره ، فلم ير النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، وسمع قوله ، فرجع إلى أصحابه ، ولم يرهم حتى نادوه (١). وقيل : هى ذكر حالهم فى الآخرة ، وحين يدخلون النار ، فتكون حقيقة. فالأغلال فى أعناقهم ، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب ؛ لقوله : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : الإنذار وتركه فى حقهم سواء ؛ إذ لا هادى لمن أضله الله.
روى أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية فى غيلان القدرىّ ، فقال غيلان : كأنى لم أقرأها قط ، أشهدك أنى تائب عن قولى فى القدر. فقال عمر : اللهم إن صدق فتب عليه ، وإن كذب فسلّط عليه من لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده ، فقطع يديه ورجليه ، وصلبه على باب دمشق (٢).
ثم ذكر من ينفعه الإنذار ، فقال : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي : إنما ينتفع بإنذارك من تبع القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) ؛ وخاف عقاب الله قبل أن يراه ، أو : تقول : نزّل وجود الإنذار لمن لم ينتفع به منزلة العدم ، فمن لم يؤمن كأنه لم ينذر ، وإنما الإنذار لمن انتفع به. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) ، وهو العفو عن ذنوبه ، (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ؛ الجنة وما فيها.
الإشارة : كل من تصدى لوعظ الناس ، وإنذارهم ، على فترة من الأولياء ، يقال له : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال فى حق من سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد : لقد حقّ القول على أكثرهم ، فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم ، وجعلنا من بين أيديهم سدا : موانع تمنعهم من النهوض إلى الله ، ومن خلفهم سدا : علائق تردهم عن حضرة الله ، فأغشيناهم : غطّينا أعين بصيرتهم ، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله ، فهم لا يبصرون داعيا ، ولا يلبون مناديا ، فالإنذار وعدمه فى حقهم سواء ، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي : سد ما خلفهم سد قهر الأزل ، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد ، فبنفسه منعهم من نفسه. لا
__________________
(١) أخرجه الطبري مختصرا (٢٢ / ١٥٢) عن عكرمة. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (١٣٩) لابن إسحاق فى السيرة ، وأبى نعيم فى الدلائل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما.
(٢) انظر تفسير النسفي (٣ / ٩٧).