يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) اليوم ، أي : أعميناهم وأذهبنا أبصارهم. والطمس : سد شق العين حتى تعود ممسوخة. (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) ، على حذف الجار ، وإيصال الفعل ، أي : فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه ، وبادروا إليه ؛ لما يلحقهم من الخوف ، (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) ؛ فكيف يبصرون حينئذ من جهة سلوكهم ، فيضلون فى طريقهم عن بلوغ أملهم.
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) قردة ، وخنازير ، أو حجارة ، (عَلى مَكانَتِهِمْ) : على منازلهم ، وفى ديارهم ، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد ، كالمقامة والمقام. (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) ؛ فلم يقدروا على ذهاب ومجىء ، أو : مضيا أمامهم ، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى : أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك ، لكنا لم نفعل ؛ لشمول الرحمة لهم ، واقتضاء الحكمة إمهالهم.
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) ؛ نطل عمره (نُنَكِّسْهُ) (١) (فِي الْخَلْقِ) ؛ نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة بالتشديد. والنكس والتنكيس : جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى : من أطلنا عمره نكسنا خلقه ، وهو نوع من المسخ ، فصار بدل القوة ضعفا ، وبدل الشباب هرما ، وذلك أنا خلقناه على ضعف فى جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد إلى أن يبلغ أشده ، ويستكمل قوته ، ويعقل ، ويعلم ما له وعليه ، فإذا انتهى نكّسناه فى الخلق ، فجعلناه يتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبىّ ، فى ضعف جسده ، وقلّة عقله ، وخلوّه من العلم ، كما ينكس السهم ، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٢). قال ابن عباس : «من قرأ القرآن ـ أي وعمل به ـ لم يرد إلى أرذل العمر». (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أنّ من قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم ، ومن القوة إلى الضعف ، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ، قادر على أن يطمس على أعينهم ، ويمسخهم على مكانتهم ، ويبعثهم بعد الموت.
الإشارة : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ، فلا يهتدون إلى طريق السلوك ، ولا يسلكونها ، فيبقوا فى الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم ، من رجاحة العقل والفهم ، فلا يتدبرون إلا فى الأمور الحسية ،
__________________
(١) قرأ عاصم وحمزة «ننكسه» بضم الأول ، وفتح الثاني ، وتشديد الثالث وكسره ، مضارع : (نكّس) ، للتكثير ، وقرأ الباقون بفتح الأول ، وإسكان الثاني ، وضم الثالث ، وتخفيفه. مضارع «نكسه» كنصره. انظر الإتحاف (٢٠ / ٤٠٤).
(٢) الآية ٧٠ من سورة النحل.