فلا يستطيعون مضيا فى بلاد المعاني ، ولا رجوعا عن الحسيات. ومن نعمّره من هؤلاء ننكّسه فى الخلق ، فيلحقه الخرف والضعف ، وأما من اهتدى إلى طريق السير ، وسلك بلاد المعاني ، فلا يزيده طول العمر إلا رجاحة فى العقل ، وقوة فى العلم ، وتمكينا فى المعاني والمعرفة.
قال القشيري : ومن نعمّره ننكّسه فى الخلق : نرده إلى العكس ، فكما كان يزداد فى القوة ، يأخذ فى النقصان ، إلى أن يبلغ أرذل العمر ، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف ، ثم لا يبقى بعد النقصان شىء ، كما أنشدوا :
طوى العصران ما نشراه منى |
|
فأبلى جدتى نشر وطى |
أرانى كلّ يوم فى انتقاص |
|
ولا يبقى مع النقصان شىّ (١) |
وهذا فى الجثة والمبانى ، دون الأحوال والمعاني ، فإن الأحوال ـ فى حق الجثة ـ فى الزيادة إلى بلوغ حد الخرف ، فيختلّ رأيه وعقله. وأصحاب الحقائق تشيب ذوائبهم ، ولكنّ محابّهم ومعانيهم فى عنفوان شبابها ، وطراوة جدّتها. ه.
ثم أنكر على من رمى القرآن بكونه شعرا ، فقال :
(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))
يقول الحق جل جلاله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) أي : وما علّمنا نبينا محمدا الشعر ، حتى يقدر أن يقول شعرا ، فيتهم على القرآن ، أو : وما علّمناه بتعلم القرآن الشعر ، على معنى : أن القرآن ليس بشعر ، فإنه غير مقفّى ولا موزون ، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفية؟ فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء ، (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي : وما يليق بحاله ، ولا يتأتى له لو طلبه ، أي : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأتّ له ، ولم يسهل ، كما جعلناه أمّيا لم يهتد إلى الخط ؛ لتكون الحجة أثبت ، والشبهة أدحض.
__________________
(١) نسب البيتان إلى محمد بن يعقوب بن إسماعيل ، كما فى كتاب الوافي بالوفيات (٥ / ٢٢٢). ونسبا إلى أبى بكر بن أبى الدنيا ، كما فى تاريخ بغداد (١٤ / ٣١١).