وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أنا النّبىّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطّلب» (١) ، وقوله : «هل أنت إلّا إصبع دميت ، وفى سبيل الله ما لقيت» (٢) ، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد ، كما يتفق فى خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم ، ولا يسمى شعرا إلا ما قصد وزنه.
ولمّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر ، قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي : ما الذي يعلّم ويقوله إلا ذكر من الله ، يوعظ به الإنس والجن ، (وَقُرْآنٌ) أي : كتاب سماوى ، يقرأ فى المحاريب ، ويتلى فى المتعبّدات ، وينال بتلاوته والعمل به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر ، الذي هو من همزات الشيطان؟!.
أنزلناه إليك (لِتُنْذِرَ بِهِ) (٣) يا محمد ، أو : لينذر القرآن (مَنْ كانَ حَيًّا) بالإيمان ، أو عاقلا متأملا ؛ فإن الغافل كالميت ، أو : من سبق فى علم الله أنه يحيى ؛ فإن الحياة الأبدية بالإيمان ، وتخصيص الإنذار به ؛ لأنه المنتفع به ، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي : تجب كلمة العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) المصرّين على الكفر ، وجعلهم فى مقابلة من كان حيا إشعار بأنهم بكفرهم فى حكم الأموات ، كقوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٤).
الإشارة : أما النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنفى الله عنه صنعة الشّعر ، والقوة عليه ، لئلا يتهم فيما يقوله ، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه ، ويصرف ذلك فى أمداح الخمرة الأزلية ، والحضرة القدسية ، أو فى الحضرة النبوية ، وينالون بذلك تقريبا ، ورتبة كبيرة ، وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا» (٥) فالمراد به شعر الهوى ، الذي يشغل عن ذكر الله ، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة ـ رضى الله عنها ـ أكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتمثل بشىء من الشعر؟ فقالت : لم يتمثل بشىء من الشعر إلا بيت طرفة ، أخى بنى قيس :
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا |
|
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد. |
وربما عكسه فقال : «ويأتيك من لم تزود بالأخبار» (٦). وبالله التوفيق.
__________________
(١) أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من قاد دابة غيره فى الحرب ، ح ٢٨٦٤) ومسلم فى (الجهاد ، باب فى غزوة حنين ، ٣ / ١٤٠٠ ، ح ١٧٧٦) من حديث البراء بن عازب.
(٢) أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من ينكب فى سبيل الله ، ح ٢٨٠٢) وفى (الأدب ، باب ما يجوز من الشعر والرجز) ومسلم فى (الجهاد ، باب لقى النبي صلىاللهعليهوسلم من أذى المشركين والمنافقين ، ٣ / ١٤٢١ ، ح ١٧٩٦) من حديث جندب بن سفيان.
(٣) قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب «لتنذر» بالخطاب. وقرأ الباقون «لينذر» بالغيب. انظر الإتحاف (٢ / ٤٠٤).
(٤) من الآية ٢٢ من سورة فاطر.
(٥) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر الله ، ح ٦١٥٥) ومسلم فى (كتاب الشعر ، ٤ / ١٧٦٩ ح ٢٢٥٧).
(٦) أخرجه بنحوه ، وبدون ذكر بيت الشعر ، الطبري فى تفسيره (٢٣ / ٢٧) وعزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٥٠٥) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم. وانظر : تفسير البغوي (٧ / ٢٧) وتفسير ابن كثير (٣ / ٥٧٩).