ثم ذكّرهم بالنعم ، عليهم ينقادوا بملاطفة الإحسان فقال :
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣))
يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : أعملوا ولم يعلموا (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي : أظهرته قدرتنا ، ولم يقدر على إحداثه غيرنا. وذكر الأيدى ، وإسناد العمل إليها ، استعارة ، تفيد مبالغة فى الاختصاص والتفرد بالإيجاد ، (أَنْعاماً) ، خصّها بالذكر ؛ لما فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي : خلقناها لأجلهم ، فملكناها إياهم ، فهم يتصرفون فيها تصرّف المالك ، مختصّون بالانتفاع بها. أو : فهم لها حافظون قاهرون.
(وَذَلَّلْناها لَهُمْ) ؛ وصيّرناها منقادة لهم. وإلا فمن كان يقدر عليها لو لا تذليله وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة ، ويسبح بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١) (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي : مركوبهم ، وهو ما يركب منها ، وقرىء بضم الراء ، أي : ذو ركوبهم. أو : فمن منافعها ركوبهم. (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) ؛ ما يأكلون لحمه ، أي : سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) من الجلود ، والأوبار ، والأصواف ، وغير ذلك ، (وَمَشارِبُ) من اللبن ، على تلونه من المضروب وغيره ، وهو جمع : مشرب ، بمعنى : موضع الشرب. أو : المصدر ، أي : الشرب. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعم الله فى ذلك؟ إذ لو لا إيجاده إيها لها ما أمكن الانتفاع بها.
الإشارة : قوم نظروا إلى ما منّ الله إليهم من المبرة والإكرام ، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان ، فعرفوا المنعّم ، وشكروا الواحد المنان ، فسخّر لهم الكون وما فيه ، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم ، فسلّط عليهم المصائب والنقم ، فانقادوا إليه قهرا بسلاسل الامتحان ، «عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل» (٢) ، وكل هؤلاء سبقت لهم
__________________
(١) الآية ١٣ من سورة الزخرف.
(٢) لفظ حديث ، أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب الأسارى فى السلاسل ، ح ٣٠١٠) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه.