ثم أبطل دعوى من أنكر البعث ، وهو من جملة قولهم ، الذي أمر نبيه بالتسلى عنه ، فقال :
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))
يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) مذرة ، خارجة من الإحليل ، الذي هو قناة النجاسة ، (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ؛ بيّن الخصومة ، أي : فهو على مهانة أصله ، ودناءة أوله ، يتصدّى لمخاصمة ربه ، وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمّت عظامه. وهى تسلية ثانية له صلىاللهعليهوسلم ، وتهوين ما يقولونه فى جانب الحشر ، وهو توبيخ بليغ ؛ حيث عجّب منه ، وجعله إفراطا فى الخصومة بيّنا فيها.
روى أن أبىّ بن خلف أتى النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم بال ، ففتّه بيده ، وقال : يا محمد ؛ أترى الله يحيى هذا بعد ما رمّ؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» (١) فنزلت الآية.
(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) ، أمرا عجيبا ، بأن جعلنا مثل الخلق العاجزين ، فنعجز عما عجزوا عنه ؛ من إحياء الموتى ، (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) من المنىّ المهين ، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و «خلقه» : مصدر مضاف للمفعول ، أي : خلقنا إياه ، (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ؛ بال مفتت ، وهو اسم لما بلي من العظام ، لا صفة ، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبرا لمؤنث ، وقيل : صفة بمعنى مفعول ، من : رممته ، فيكون كقتيل وجريح. وفيه
__________________
(١) أخرجه الطبري (٢٣ / ٣٠) والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٩) عن قتادة. وعزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٥٠٨) لسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والبيهقي فى البعث ، عن أبى مالك. وأخرج الحاكم (٢ / ٤٢٩) وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس : أن الآية نزلت فى العاص بن وائل. والآية عامة ، والألف واللام فى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) للجنس ، يعم كل منكر للبعث.