قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (١٩) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))
يقول الحق جل جلاله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي : فاستخبر كفّار مكّة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي : أقوى خلقا وأعظم ، أو : أصعب خلقا وأشقه. (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يعنى ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما ، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب ، والشّهب الثواقب؟. وجىء ب «من» تغليبا للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة من قرأ : (أم من عددنا) بالتشديد والتخفيف. والقصد : الرد على منكرى البعث ، فإنّ من قدر على خلق هذه العوالم ، على عظمها ، كان على بعثهم أقدر.
ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) ؛ لاصق باليد ، أو : لازم. وقرئ به ، أي : يلزم من جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف ؛ لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو : احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه إنما هو تراب ، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقا آخر؟ حيث قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) (١) إلخ ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعد ؛ من ذكر إنكارهم البعث.
(بَلْ عَجِبْتَ) من تكذيبهم إيّاك ، وإنكارهم البعث ، (وَيَسْخَرُونَ) هم منك ، ومن تعجبك ، أو : من أمر البعث ، قال الكواشي : ولمّا لم تؤثّر فيهم البراهين ، أمر نبيّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالإضراب عنهم ، والإعجاب منهم ، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث ، والمعنى : إنك تعجبت من تكذيبهم ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك. ه. قال قتادة : لمّا نزل القرآن عجب منه النبي صلىاللهعليهوسلم ، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به ، فلما سمعه المشركون ، ولم يؤمنوا ، وسخروا ، تعجّب من ذلك (٢). ه. وذكر ابن عطية وغيره : أن الآية نزلت فى ركانة ، الذي صرعه صلىاللهعليهوسلم (٣) ، وذكر ابن عبد البر : أنه أسلم يوم الفتح. ه.
وقرأ الأخوان «عجبت» بضم التاء ، أي : استعظمت. والعجب : روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء ؛ لخفاء سببه ، وهو فى حقه تعالى محال ، ومعناه : التعجب لغيره ، أي : كل من يرى حالهم يقول : عجبت ، ونحوه : قوله صلىاللهعليهوسلم : «عجب الله من شاب ليست له صبوة» (٤). وهو عبارة عما يظهره الله فى جانب المتعجب منه ، من التعظيم أو التحقير ، أو : قل يا محمد : عجبت ويسخرون.
__________________
(١) الآية ٥ من سورة الرعد.
(٢) أخرجه الطبري (٢٣ / ٤٤).
(٣) حديث صرع النبي صلىاللهعليهوسلم للركانة ، أخرجه الترمذي فى (اللباس ، باب العمائم على القلانس ٤ / ٢١٧ ح ١٧٨٤) وأبو داود فى (اللباس ، باب فى العمائم ٤ / ٣٤١ ح ٤٠٧٨) عن أبى ركانة.
(٤) أخرجه أحمد (٤ / ١٥١) والطبراني فى الكبير (١٧ / ٣٠٩) من حديث عقبة بن عامر. قال الهيثمي فى المجمع (١٠ / ٢٧٠) : وإسناده حسن.