اعرفوا واهب النعم : الخطاب ما يزال موجّهاً إلى المشركين. في هذه الآيات حثّ استدلالي على إيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع الضرر ، فيبدأ بالقول : إنّه إذا سلب منكم الله النعم الثمينة التي وهبها لكم ، مثل السمع والبصر ، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسيء ، والحق والباطل ، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إليكم تلك النعم؟ (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ).
في الواقع ، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أنّ الخالق والرازق هو الله ، وكانوا يعبدون الأصنام للإستشفاع بها عند الله.
ثم تقول الآية : انظر إلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف الوسائل ، ولكنهم مع ذلك يعرضون عنها : (انظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الْأَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ).
«نصرف» : من «التصريف» بمعنى «التغيير» والكلمة هنا تشير إلى مختلف الاستدلالات في صور متنوعة. و «يصدفون» : من «صدف» بمعنى «الجانب» و «الناحية» أي إنّ المعرض عن شيء يدير وجهه إلى جانب أو ناحية اخرى.
تشير الآية الثانية ـ بعد ذكر هذه النعم الثلاث «العين والأذن والإدراك» التي هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة ـ إلى إمكان سلب هذه النعم كلّها دفعة واحدة ، فتقول : (قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).
«بغتة» : بمعنى «فجأة» و «جهرة» بمعنى «الظاهر» والعلانية.
والقصد هو أنّ القادر على إنزال مختلف العقوبات ، وسلب مختلف النعم هو الله وحده ، وإنّ الأصنام لا دور لها في هذا أبداً ، لذلك ليس ثمّة ما يدعو إلى اللجوء إليها ، لكن الله لحكمته ورحمته لا يعاقب إلّاالظالمين.
الآية الثالثة تشير إلى مركز الأنبياء ، فتقول : ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأيّ أمر ، فإنّ الأنبياء العظام والقادة الإلهيين أيضاً لا عمل لهم سوى إبلاغ الرسالة والإنذار والتبشير ، فكلّ ما هنالك من نعم إنّما هي من الله وبأمره ، وأنّهم إن أرادوا شيئاً طلبوه من الله : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).
ثم تقول : إنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين ، فالذين يؤمنون ويصلحون أنفسهم (وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) فلا خوف عليهم من العقاب الإلهي ، ولا حزن على أعمالهم السابقة. (فَمَنْءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).