شرك أهل الكتاب : كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإلغاء عهودهم وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إلى أهل الكتاب. وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين ، ولا سيما اليهود والنصارى منهم ، ليتضح أنّه لو كان بعض التشدد في معاملتهم ، فإنّما هو لانحرافهم عن التوحيد ، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة ، ونوع من الشرك في العبادة. فتقول الآية الاولى من الآيات محل البحث : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْزٌ ابنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
من هو عزير؟ «عزير» في لغة العرب هو «عزرا» في لغة اليهود ، فإنّ عزيراً ـ أو عزرا ـ له مكانة خاصه في تاريخ اليهود ، حتى أنّ بعضهم زعم أنّه واضع حجر الأساس لُامّة اليهود وباني مجدهم ، وفي الواقع فإنّه خدمةً كبرى لدينهم ، لأنّ بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميراً في واقعته المشهورة ، وجعل مُدُنَهم ، تحت سيطرة جنوده فأبادوها ، وهدموا معابدهم ، وأحرقوا توراتهم ، وقتلوا رجالهم ، وسبوا نساءهم ، وأسروا أطفالهم ، وجيء بهم إلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن.
ولمّا فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا ، وكان من أكابر اليهود ، فاستشفعه في اليهود فشفّعه فيهم ، فرجعوا إلى ديارهم وكتب لهم التّوراة ـ ممّا بقي في ذهنه من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدّثوا به ـ من جديد. ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام ، ويعدّونه منقذهم ومحيي شريعتهم. وكان هذا الأمر سبباً أن تلقبه جماعة منهم ب «ابن الله».
وفي الآية التالية إشارة إلى شركهم العملي في قبال الشرك الإعتقادي ، أو بعبارة اخرى إشارة إلى شركهم في العبادة ، إذ تقول الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ). «الأحبار» جمع حبر ، ومعناه العالم ، و «الرهبان» جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة.
وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم ، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط ، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الأحكام المخالفة لحكم الله من قبلهم ، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى باتخاذ ربّ.
وفي ختام الآية تأكيد على هذه المسألة ، وهي أنّ جميع هذه العبادات للبشر بدعة ، وهي من العبادات الموضوعة : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).