فَأَغْرَقْنهُمْ أَجْمَعِينَ). إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة اخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهية لا تتّصف بصفة الإنتقام مطلقاً ، بل هي على أساس إنتخاب الأصلح ، أي إنّ حق الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لُاناس يكونون في طريق التكامل والسير إلى الله ، أو انّهم إذا ساروا يوماً في طريق الانحراف إنتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب.
(وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (٨٠)
قضاء داود وسليمان عليهماالسلام : بعد الحوادث والوقائع المتعلقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوط عليهمالسلام ، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان ، وفي البداية أشارت إشارة خفية إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان ، فتقول : (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شهِدِينَ) (١).
إنّ القصة كانت كما يلي : إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلاً إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته ، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود ، فحكم داود بأن تعطى كل الأغنام لصاحب البستان تعويضاً لهذه الخسارة الفادحة ، فقال سليمان ـ والذي كان طفلاً آنذاك ـ لأبيه : يا نبي الله العظيم ، غيّر هذا الحكم وعدّ له. فقال الأب : وكيف ذاك؟ قال : يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها ، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه ، فإذا عاد البستان إلى حالته الاولى يُردّ إلى صاحبه ، وتردّ الأغنام أيضاً إلى صاحبها ؛ وأيّد الله حكم سليمان في الآية التالية : (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمنَ). ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان إشتباهاً وخطأً ، لأنّها تضيف مباشرةً : (وَكُلًّاءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
ثم تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها لداود عليهالسلام ، فتقول:
__________________
(١) «نفشت» : من مادّة نَفْش على وزن (حرب) ، أي التفرّق والتبعثر في الليل ، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل ، وفي المزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتماً ، لذا قال البعض : إنّها الرعي في الليل ؛ و «نَفَش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.