وتتحرك الآية التالية لتُسرّي عن قلب النبي صلىاللهعليهوآله وتثبته فتقول : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). «باخع» : مشتقة من «البَخْع» ، ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ.
أجل ، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على اممهم ولا سيما الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة ...
قال بعض المفسرين : إنّ سبب نزول الآية الآنفة الذكر هو أنّ النبي صلىاللهعليهوآله كان يدعو أهل مكة إلى توحيد الله باستمرار ، إلّاأنّهم لم يؤمنوا ، فأسف النبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه ، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النبي صلىاللهعليهوآله (١).
ولبيان أنّ الله على كل شيء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك ، فإنّ الآية التالية تقول : (إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاءِءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).
وهي إشارة إلى أنّ الله قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له ، ويطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له ، ويستسلموا لأمره وحكمه ، إلّاأنّ الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.
ثم يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول : (وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ).
والتعبير ب (الرّحمن) إشارة إلى أنّ نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامة ، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال.
والتعبير ب «محدث» ـ أي جديد ـ إشارة إلى أنّ آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الاخرى ، وكل منها ذو محتوى جديد.
ثم يضيف القرآن : أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض ، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب ، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به ، فيقول : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ). «الأنباء» : جمع «انبأ» ، أي الخبر المهم ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي.
والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أنّ الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر.
__________________
(١) تفسير روح الجنان ٨ / ٣٢٤.