فلو أنّ رجلاً مصلحاً إلهياً دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها ، عدّوه ـ بحسب منطقهم ـ مجنوناً «مسحّراً».
إنّ هؤلاء المعاندين من قوم صالح ، طلبوا منه معجزة لا من أجل معرفة الحق ، بل تذرعاً بالحجة الواهية ، وعلى نبيّهم أن يُتم الحجة عليهم ، فاستجاب لهم ـ وبأمر الله ـ : (قَالَ هذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ).
هذه الناقة لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية ، كانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل ، ومن خصائصها أنّها كانت تشرب ماء الحيّ في يوم ، واليوم الآخر لأهل الحي «أو القرية».
وكان على صالح عليهالسلام أن يعلمهم أنّ هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة ، وهي آية من آيات عظمة الله المطلقة فعليهم أن يَدَعوها على حالها ، وقال : (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
وبديهي أنّ المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدّي إلى الإضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة : (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا ندِمِينَ) (١). لأنّهم رأوا أنفسهم قاب قوسين من العذاب الإلهي.
ولما تجاوز طغيانهم الحدّ ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غير مستعدين لقبول الحق ، اقتضت إرادة الله ومشيئته أنّ يطهر الأرض من وجودهم الملوّث (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ).
ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم ، فيعبّر تعبيراً بليغاً موجزاً يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين : إنّ في قصة قوم صالح ، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة ، وعناد قومه وغرورهم وانكارهم للمعجزة البيّنة ، والمصير الأسود الذي آلو إليه دروس وعبر : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ).
أجل ، ليس لأحد أن يغلب ربّه ؛ فما فوق قوّته من قوة ، وهذه القوة وهذه القدرة العظيمة لا تمنع أن يرحم أولياءه ، بل أعداءه أيضاً : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
__________________
(١) «عقروها» : مأخوذة من مادة «عُقر» ومعناها في الأصل أساس الشيء وجذره ، وقد تأتي بمعنى حز الرأس ، وتأتي بمعنى قطع الأرجل من الحيوان ، وما إلى ذلك.