فيها نوع من النظم الخيالي ، والهدف الخيالي أيضاً.
فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة ، مبيّناً أنّ الحياة الدنيا هي نوع من الإنشغال واللعب ، ثم يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.
أمّا الحياة الحقيقية التي الافناء بعدها ، فهي الحياة الآخرة فحسب.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» هو الحياة ، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً. وهذا التعبير : (وَإِنَّ الدَّارَ الْأَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ) إشارة إلى أنّ الحياة الحقيقية هي في الاخرى ، لا في هذه الدار الدنيا ـ فكأنّ الحياة في الاخرى تفور من جميع أبعادها ، ولا شيء هناك إلّاالحياة.
وبديهي أنّ القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا ، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الاخرى قياساً صريحاً وواضحاً ... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب ، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها ، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً.
وفي المرحلة الثالثة ... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية ، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان ، وضمن مثالٍ بديع جدّاً وبليغ فيقول : (فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).
أجل ، إنّ الشدائد والأزمات هي التي تهيء الأرضية لتفتح الاجتماعية «الفطرة» الإنسانية ، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً.
إلّا أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستاراً ، غير أنّ طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار ، وتتجلى نقطة النور آنذاك.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله ، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول : إنّ هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل : (لِيَكْفُرُوا بِمَاءَاتَيْنهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم وشركهم.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)