الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدث عن التوحيد والربوبية أيضاً ، وانسجاماً مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم ، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء ، فإنّها تقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ).
إنّ العالم هو عالم الأسباب ، لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية ، إذ يتفق أن نرى أناساً جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك ، إلّاأنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم ، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.
وهذه الاستثناءات كأنّها لبيان أنّ الله بالرغم من جميع ما جعل للأسباب من تأثير ، لا ينبغي أن يُنسى في عالم الأسباب ، ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أنّ وراء هذا العالم يداً قوية اخرى تديره كيف شاءت.
لذلك يقول القرآن في نهاية الآية : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
وحيث إنّ كل نعمة وموهبة ينالها الإنسان تحمّله وظائف ومسؤوليّات وعليه أداؤها ، فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبي صلىاللهعليهوآله في الآية التالية قائلاً : (فَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).
والتعبير بـ «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإنسان ، وإذا دفع المرء شيئاً من ماله إليهم فإنّما يؤدّي حقّهم ، وليس له منّ عليهم.
إنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيباً للمحسنين ، وشرط القبول ضمناً ، فيقول : (ذلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ومع الإلتفات إلى أنّ المراد من (وَجْهَ اللهِ) ذاته المقدّسة ، فإنّ هذه الآية تشير إلى أنّ الإنفاق وإيتاء حقّ الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافياً ، بل المهم هو الإخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.
وتشير الآية التالية ـ بمناسبة البحث المتقدم عن الإنفاق الخالص ـ إلى نوعين من الإنفاق : أحدهما لله ، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا ، فتقول : (وَمَاءَاتَيْتُم مِّن رّبًا لّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللهِ وَمَاءَاتَيْتُم مّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
«الربا» : معناه في الأصل «الزيادة» ، وهنا أنّ المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض