بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم ، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ).
إنّ أهل بابل كانوا يستقرئون النجوم ، وبالطبع كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم ، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم ، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة ، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.
ولكي يوهمهم إبراهيم عليهالسلام بأنّه يقول بمثل قولهم ، نظر إلى السماء وقال حينذاك : إنّي سقيم ، فتركوه ظنّاً منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.
ولكن روحه متعبة من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم ، رغم أنّهم تصوّروا شيئاً آخر ، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.
وبهذه الطريقة بقي إبراهيم عليهالسلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها ، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه ، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها ، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها ، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.
فذهب إلى معبد الأصنام ، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد ، ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئاً ، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم عبدتكم ، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع ، ما لكم لا تأكلون؟ (فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) (١).
ثم أضاف : لِم لا تتكلّمون؟ لِم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ (مَا لَكُمْ لَاتَنطِقُونَ).
بعد ذلك شمر عن ساعديه ، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكل ما لديه من قوّة : (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ).
إنّ إنقضاض إبراهيم عليهالسلام على الأصنام ، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة.
وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم ، واتّجهوا فوراً إلى معبدهم ، فشاهدوا مشهداً رهيباً وغامضاً.
ثم تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد ، تحوّل إلى صراخ وإستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟
ولم يمرّ وقت طويل ، حتى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم إسمه إبراهيم ، كان يستهزىء بأصنامهم (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ).
__________________
(١) «راغ» : من مادة «روغ» وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.