ثم يقسم الله تعالى بالقرآن ذي الذكر والذي هو حقّاً معجزة إلهية : (وَالْقُرْءَانِ ذِى الذّكْرِ).
فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر ، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة ، تذكّر الله ، وتذكّر نعمه ، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة ، وتذكّر هدف خلق الإنسان.
الآية التالية تقول لرسول الله صلىاللهعليهوآله : إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات الله الواضحة ولقرآنه المجيد ، فاعلم أنّ سبب هذا لا يعود إلى أنّ هناك ستاراً يغطّي كلام الحق ، وإنّما هم مبتلون بالتكبر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول الحق ، كما أنّ عنادهم وعصيانهم ـ هما أيضاً ـ مانع يحول دون تقبّلهم لدعوتك : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ).
«العزّة» : كما قال الراغب في مفرداته ، هي حالة تحول دون هزيمة الإنسان (حالة الذي لا يقهر) ، وتعطي معنيين ، فأحياناً تعني (العزّة الممدوحة) المحترمة ، كما في وصف ذات الله الطاهر بالعزيز ، وأحياناً تعني (العزّة بالإثم) أي الوقوف بوجه الحق والتكبر عن قبول الواقع ، وهذه مذلّة في حقيقة الأمر.
«شقاق» : مشتقة من «شقّ» ، ومعناه واضح ، ثم استعمل في معنى المخالفة ، لأنّ الإختلاف يسبّب في أن تقف كل مجموعة في شقّ ، أي في جانب.
القرآن هنا يعدّ مسألة العجرفة والتكبر والغرور وطيّ طريق الإنفصال والتفرقة من أسباب تعاسة الكافرين.
ولإيقاظ اولئك المغرورين المغفّلين ، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر ، ليريهم مصير الامم المغرورة والمتكبّرة ، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها (كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ). أي : إنّ امماً كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء ، وإنكارها آيات الله ، وظلمها وإرتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها ، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع من الوقت لإنقاذ أنفسهم : (فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ).
فعندما كان أنبياء الله في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة ، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الإستماع ، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم ، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كل الجسور التي خلفهم ، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعاً ، العذاب الذي رافقه إنغلاق باب التوبة والعودة ، وفور نزوله تبدأ أصوات الإستغاثة تتعالى ، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئاً.