التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة : أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصة إبراهيم ، وما جرى له مع قوم بابل عبدة الأوثان ، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد ، الذي ورد في الآيات السابقة ، وذلك لأنّه :
أوّلاً : إنّ إبراهيم عليهالسلام كان الجد الأكبر للعرب ، وكانوا يعدونه محترماً ويقدّسونه ، ويفتخرون بتأريخه ، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقّاً فيجب عليهم أن يتبعوه عندما مزّق حجب التقليد ، وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء ، فلماذا يقلّدون عبدة الأوثان ولا يتّبعون إبراهيم عليهالسلام.
ثانياً : إنّ عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الاستدلال الواهي ـ وهو اتّباع الآباء ـ فلم يقبله إبراهيم منهم أبداً.
ثالثاً : إنّ هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله والمسلمين الأوائل ليعلموا أنّ مثل هذه المخالفات والتوسّلات بالمعاذير والحجج الواهية كانت موجودة دائماً ، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.
تقول الآية الاولى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ).
ولمّا كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون الله أيضاً ، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال : (إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).
إنّه عليهالسلام يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلاً على انحصار العبوديّة بالله تعالى ، لأنّ المعبود هو الخالق والمدبر ، وكان الجميع مقتنعين بأنّ الخالق هو الله سبحانه ، وكذلك أشار عليهالسلام في هذه العبارة إلى مسألة هداية الله التكوينية والتشريعية التي يوجبها قانون اللطف.
ولم يكن إبراهيم عليهالسلام من أنصار أصل التوحيد ، ومحاربة كل أشكال الشرك طوال حياته وحسب ، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل ابقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد ، كما تبيّن ذلك الآية التالية ، إذ تقول : (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).
والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من تعليمات إبراهيم عليهالسلام التوحيدية ، وأنّ ثلاثة من أنبياء الله العظام ـ وهم موسى وعيسى عليهماالسلام
__________________
(١) «العقب» : في الأصل بمعنى كعب القدم ، إلّاأنّ هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.