لأنّ موسى عليهالسلام كان واثقاً من نفوذه بين أوساط الناس ، ومختلف طبقاتهم ، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات ، والأدلة القوية ، والسلطان المبين.
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩)
لقد استخدم موسى عليهالسلام كل وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة ، إلّا أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير ، وطرق كل باب ولكن ما من مجيب. لذلك يئس منهم ، ولم ير لهم علاجاً إلّالعنهم والدعاء عليهم ، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة ، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب الله ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم. لذلك تقول الآية الاولى من هذه الآيات : (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ).
وقد استجاب الله سبحانه دعاءه ، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة ، ونجاة بني إسرائيل منهم ، أمر موسى عليهالسلام أن (فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ).
لكن لا تقلق من ذلك ، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.
إنّ ما حذف هنا من أجل الاختصار وُضّح في آيات اخرى من القرآن بعبارات موجزة ، فمثلاً نقرأ في الآية (٧٧) من سورة طه : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَاتَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى).
ثم تضيف الآية التي بعدها : عندما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا). والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.
من الطبيعي أنّ موسى عليهالسلام وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة اخرى وتملأ هذا الفراغ ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر ، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود ، إلّاأنّهم امروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل ، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل ، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة ، ولذلك تقول الآية في ختامها : (إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ).