واللطيفة الاخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت : (وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا).
حقاً .. كان ما حدث مصداقاً جليّاً «للفتح المبين» ونعم ما اختاره القرآن له من وصف ، فالعدوّ الذي زحف بجيشه مراراً نحو المدينة وسعى سعياً عجيباً لإيقاع الهزيمة بالمسلمين ، إلّا أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة اخرى تتعلّق بمسألة صلح الحديبية وحكمتها ، إذ تقول الآية : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) (١).
كان أحد ذنوبهم كفرهم ، والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العُمرة زيارة بيت الله ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله ، أي مكة.
ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم الله عليهم لتعاقبوهم بشدة ، لكنّ الله تعالى لم يفعل ذلك فلماذا؟! ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول : (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة.
«المعرّة» : من مادة «عرّ» على زنة «شرّ» (والعرّ على زنة الحر) في الأصل معناه مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحياناً ثم توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كل ضرر يصيب الإنسان.
ولإكمال الموضوع تضيف الآية : (لّيُدْخِلَ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ).
أجل ، كان الله يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أيّة صدمة ..
ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
أي : لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكة ولم يكن هناك خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذاباً أليماً.
__________________
(١) «معكوفاً» : مشتق من «العكوف» ، ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان.