وللإمام علي عليهالسلام كلام بليغ ـ في الخطبة ١٠٩ في نهج البلاغة ـ يرسم لحظة الموت وسكراتها إذ يقول : «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وأنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره ، وفيم أذهب دهره! ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها».
ثم يضيف القرآن في ذيل الآية قائلاً : (ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١).
أجل ، إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء ، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها ، أو لسواد صحيفة أعمالهم. أيّاً كان فهم منه يهربون ... ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه.
ثم يتحدث القرآن عن النفخ في الصور فيقول : (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ).
والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية ، وهي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.
وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ).
فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله ، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.
وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فرداً فرداً) فيقال : (لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
أجل ، إنّ أستار عالم المادة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور ، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة ، وتماط عنك حجب الجهل
__________________
(١) «تحيد» : مشتقة من مادة «حيد» ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه ..