في لبد ويلقونه في قعر بيت يظنون أنه قد مات فيخرج [عليهم](١) في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله عزوجل.
وروي أنّ شيخا منهم جاء يتوكّأ على عصا ومعه ابنه فقال : يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون ، فقال له : يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا من أبيه فضرب نوحا حتى شجّه شجّة منكرة ، فأوحى الله عزوجل إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ، (فَلا تَبْتَئِسْ) ، فلا تحزن ، (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) ، فإنّي مهلكهم [ومنقذك منهم](٢) ، فحينئذ دعا نوح عليهم : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦)) [نوح : ٢٦].
وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه : أنهم كان يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون ، حتى إذا تمادوا في المعصية واشتدّ عليه منهم البلاء ، وانتظر الجيل بعد الجيل (٣) فلا يأتي قرن إلّا كان أخبث من الذي قبله حتى إن كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا ، فشكا إلى الله تعالى فقال : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) [نوح : ٥] ، إلى أن قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] ، فأوحى الله تعالى إليه :
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨))
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) ، قال ابن عباس : بمرأى منّا. وقال مقاتل : بعلمنا. وقيل : بحفظنا.
(وَوَحْيِنا) ، أي : بأمرنا ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ، [أي] : ولا تخاطبني في إمهال الكفار ، فإني حكمت [في غيبي](٤) بإغراقهم. وقيل : لا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم. وفي القصة : أن جبريل أتى نوحا عليهالسلام فقال : إن ربّك عزوجل يأمرك أن تصنع الفلك ، فقال : كيف أصنع ولست بنجار؟ فقال : إنّ ربّك يقول اصنع فإنك بعيني ، فأخذ القدوم وجعل يصنع ولا يخطئ. وقيل : أوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
قوله تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) ، فلما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك أقبل نوح عليهالسلام على عمل الفلك ولها عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيّئ عدّة الفلك من القارّ وغيره ، وجعل قومه يمرّون به وهو في عمله ويسخرون منه ، ويقولون : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوّة؟ وأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم ولد. وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يصنعه من ازور وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا ، وطوله في السماء ثلاثين ذراعا ، والذراع إلى المنكب ، وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلى ووسطى وعليا ويجعل فيه كوى ، ففعله نوح كما أمر الله عزوجل.
وقال ابن عباس : اتّخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون
__________________
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) العبارة في المطبوع «ولا منقذ منهم».
(٣) في المخطوط «البخل».
(٤) زيادة عن المخطوطتين.