وأما القسم الثالث فهو الواسطة ، وهم الذين ما بلغوا في الكمال الى حد الحكماء المحققين ، ولا في النقصان والرذالة الى حد المشاغبين المخاصمين ، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الاصلية والسلامة الخلقية ، وما بلغوا الى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن الا بالموعظة الحسنة ، وأدناها المجادلة.
وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون ، وأوسطهم عامة الخلق ، وهم أرباب السلامة ، وفيهم الكثرة والغلبة ، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة ، فقوله تعالى : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ» معناه : ادع الاقوياء الكاملين الى الدين الحق بالحكمة ، وهي البراهين القطعية اليقينية ، وعوام الخلق بالموعظة الحسنة وهي الدلائل اليقينية الاقناعية الظنية ، وتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل».
ثم يعلّق على قوله : «ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» بالعبارة التالية :
«انك مكلف بالدعوة الى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة ، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين. والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية ، فبعضها نفوس مشرقة صافية ، قليلة التعلق بالجسمانيات ، كثيرة الانجذاب الى عالم الروحانيات ، وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات ، عديمة الالتفات الى الروحانيات.
ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها ، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها ، فلهذا قال تعالى : اشتغل أنت بالدعوة ، ولا تطمع في حصول الهداية للكل ، فانه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة ، واباشراق النفوس المشرقة الصافية ، فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية