هجرة بعد ثلاث» قال : «يريد به الهجر بعد الوصل ، يعني فيما يكون بين المسلمين من عتب وموجدة ، أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة ، دون ما كان من ذلك في جانب الدين ، فان هجرة أهل الاهواء والبدع دائمة على مرّ الاوقات ، ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع الى الحق ، فانه صلىاللهعليهوسلم لما خاف على كعب بن مالك وأصحابه النفاق ، حين تخلفوا عن غزوة تبوك ، أمر بهجرانهم خمسين يوما ، وقد هجر نساءه شهرا ، وهجرت عائشة ابن الزبير مدة وهجر جماعة من الصحابة جماعة منهم وماتوا.
وقد جاء في السنة الحديث القائل : «هاجروا ولا تهجروا» أي كونوا من المهاجرين حقيقة ، ولا تتشبهوا بهم في القول دون العمل ، وهذا يؤكد لنا أن الهجرة عمادها النية وثبات الاخلاق التي تدفع صاحبها باصالتها وكرمها الى أن يكون قدوة سليمة قويمة في هجرته ، سواء أكانت هجرة حسية تتمثل في الانتقال من مكان الى مكان ، أم كانت هجرة أخلاقية عمادها تجنب ما حرّم الله والانتهاء عما نهى عنه.
وقد يبدو لبعض قصار النظر أن الهجرة يسيرة في الاتيان بها ، فهي لا تحتاج الا الى الانتقال من أرض الى أرض مع أنه جاء في صحيح البخاري الحديث القائل : «ان شأن الهجرة لشديد». ويفهم الانسان فيما يفهم أن الهجرة تكون شديدة على الانسان ، ولو كانت مجرد هجرة حسية لأن الهجرة ترك للوطن والاهل والسكن والمعارف والاقارب والاصدقاء. وليس من المستطاع الميسور احتمال هذا على كل انسان. فاذا كانت الهجرة معنوية روحية أخلاقية كانت الشدة فيها أوضح وأظهر ، لأن الهجرة المعنوية تحتاج الى عزم الرجال وهمم الابطال ، وهم في هذا المجال يتمردون على مألوف العادات ومرغوب الشهوات ومحبوب اللذات ، وهذا مرتقى صعب لا يقدر عليه الا أصحاب الهمم العالية من الناس.