الأزلية السرمدية قلوب الصدّيقين العاشقين ، وتلك الجبلة جبلة الأولياء ليس للأعداء فيها نصيب.
كما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما جبل ولي الله إلا على السخاء» (١).
والذي نبأنا الله من أخبار اليهود دليل على ما ذكرنا أنهم سرقوا نعت النبي صلىاللهعليهوسلم الذي وصف الله به نبيه في التوراة والإنجيل ، وهذا الكتمان أصل البخل ، فمن كان في الدنيا محجوبا بالمال عن مقام السخاء والتخلق بوصف الله سبحانه من الغنى والعطاء ، بقي فيه ذلك حجاب إلى الأبد ، ويكون مفتضحا في الدنيا والآخرة ، مشهورا بعلامة اللؤم وسمة البعد ، وذلك قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وبّخ المفلسين ؛ حيث وصف نفسه ببقائه مع ملكه القديم بعد فناء خلقه وانقطاعهم عن مأمولهم ، بقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أنا صاحب المواهب السنية ، أجازي بها المنفقين وجودهم في طريقي ، وأعطيهم ما لم يؤت أحدا من العالمين.
قال ابن عطاء : السلوك في طريق الحق على السخاء واجتناب البخل ، وهو بذل النفس والمال والسر والروح والكل ، ومن بخل بشيء في طريق الحق حجب به ، وبقي معه ، ومن نظر في طريق الحق إلى الغير ، حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب.
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))
قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) النفس صنم زينها الحق بكسوة الربوبية ، وملأها من القهر واللطف ، وكسي زينة ملكه أموال الدنيا امتحانا للعاشقين ، فمن نظر إلى نفسه بغير زينة الحق صار فرعونا نطق لسان القهر منه ب (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، وذلك مكر القدم واستدراجه.
ومن نظر إلى ربوبية وفنيت نفسه فيها نطق لسان الربوبية منه كالحلاج ـ قدّس الله
__________________
(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٤١) ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٢٥٩).