قيل : ادعوا ذلك لأنفسهم ليفتتنوا به الخلق.
قوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) هذا وصف الكذّابين في دعوى المعاملات قبل شروعهم فيها في إظهارهم سمات أهل المعاملة بظاهر التقشف وزي أهل الناموس لصرف وجوه الناس إليهم بمجرد الدعوى ، وأهل الرياء علوا على رؤية الخلق ، وجب محمدتهم ، وذلك القوم أضل من المرائين ؛ لأنهم يطلبون المحمدة والجاه بغير عمل ، وهم أقبح طائفة من المرائين الكذابين ، وإن الله تعالى بيّن بما ذكرنا في قوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) وأخبر أنهم لم يخرجوا من حجب النفسانية ، وبقوا في حجاب الهجران وهو أشد عذاب.
قال حاتم الأصم : حذّر الله بهذه سلوك طريق المرائين والمتقربين والمتزهدين والمتوسلين بسمات الصالحين ، وهم من ذلك أحوال.
قال الله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) إنّ ذلك الظاهر ينجيهم من العذاب ، كلا بل لهم عذاب أليم ، وهو أن يحجبهم عن رؤيته ويمنعهم لذيذ خطابه.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢))
قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في هذه الآية إشارة لطيفة ، وذلك أن الله سبحانه وصف الربانيين بإدراك أنوار صفة الأزل وذات القدم في ظهور قدرته في فعله ، أي : لهم برهان منه إليه لا من الخلق ؛ لأن في إيجاده غلقة يدركه نظّار المعارف وحذّاق الكواشف لا في رؤية الخلق ؛ لأن الحدث حجاب عن رؤية القدم ، وهذا مقام الخليل صلوات الله عليه أحسن الأدب ، وعلل في السؤال برؤية الخلق مراده إدراك الربوبية المحضة ، وذلك السؤال أعظم من سؤال موسى عليهالسلام ؛ لأن موسى سأل رؤية الله تعالى قط بغير الواسطة ، وهذا عام ، وما سأل الخليل صلىاللهعليهوسلم بالواسطة أدق ؛ لأنه سأل سر التقدير والقدرة من كمال شوقه من معرفته إلى نكرته ، ومن نكرته إلى معرفته ، وأيضا خصّ السماء بظهور الآيات منها ؛ لأنها مزينة بنور جلاله ، ملتبسة بسنا جماله ؛ لأنها مرآة كواشف الصدّيقين وطرق معارج المرسلين.
ألا ترى إلى قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، وقال :