قال الشيخ أبو عبد الرحمن : أي : لا تجازنا بأعمالنا ، وعد علينا بفضلك ورحمتك ، إنك لا تخلف الميعاد ، بقولك : «سبقت رحمتي غضبي».
وتفسير قوله : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) عندي نفي علة الحدث عن ساحة الكبرياء ؛ لأن نقض العهد من شواغل أهل العلة ، أي : أنت منزّه عن خلف الوعد ، ونحن في محل الأمن من ذلك ، فإنّ أوصاف الحدثان لا تجري على عزة كبريائك.
قال الأستاذ في هذه الآية : أي حقق لنا ما وعدتنا على ألسنة الوسائط من كمال النعمة ، وتكفير السيئات ، وغفران كل ما سبق من متابعات الهوى.
قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في هذه الآية إشارة إلى تنزيه الأرواح من الخطرات ، وتقديس الأشباح من الشهوات ، هاجروا من غير الله إلى الله ، ثم إنّ الله تعالى حثّ الأعداء بإخراجهم عن ديارهم لحبّ عزته العاشقين الصادقين ، كيلا يركنوا بالطبع والحب إلى الإخوان والأوطان (١).
قيل في تفسيرها : تركوا الشرور ، وفارقوا أقرباء السوء.
وقوله تعالى : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) إنّ القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يبلغوا حقائق الالتجاء إلى الله ، والفرار إليه ، فإيذاء الأضداد يهيج للأولياء إلى مقام القبض ، وضيق الصدور ، ذلك محل الامتحان من الله سبحانه ؛ لكظمهم غصص غيظ المنكرين ، لتفتح بعد ذلك أبواب الخطاب ، وصفاء البسط ، وسرور المنّة.
قال الجنيد : جزى الله إخواننا عنّا خيرا ، ردونا بحقائقهم إلى الله ، وهذا سنة الله التي قد جرت على أهل سلوك المعارف والكواشف ، قال تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢].
قيل : غير القوم بصحبة الفقراء ومجالستهم ، والتزيي بزيهم ؛ لأن الفقر هو طريق الحق ، ألا ترى المصطفى ـ صلوات الله عليه ـ لمّا جلس معهم ، كيف قال : «المحيا محياكم ، والممات مماتكم» (٢).
__________________
(١) المظلوم منصور ، ولو بعد حين ، ودولة الحق تغلب دولة الباطل ، والمظلوم حميد العقبى ، والظالم وشيك الانتقام منه بشديد البلوى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] ، وقد يجري من النّفس وهواجسها على القلوب لبعض الأولياء ، وأهل القصة ـ ظلم ، ويحصل لسكّان القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاء ، وتستولي غاغة النّفس ، فتعمل في القلوب بالفساد بسبب استيطان الغفلة حتى تتداعى القلوب للخراب من طوارق الحقائق ، وشوارق الأحوال [تفسير القشيري (٥ / ٢٠٠)].
(٢) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦ / ٤٠١) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩ / ١١٧).