ثم نظر إليه بنظر الهيبة والعظمة والجود ، فأنشر منه ما سبق علمه في الأزل به من العرش إلى الثرى على صور وهيئة كانت منقوشة بنقوش خواتيم أفعاله ، وذلك المبدع هو أحمد ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال : «أوّل ما خلق الله نوري ، فكنت كذا وكذا» (١) ، حتى ذكر أن من العرش إلى الثرى خلق من نوره وهو آدم عليهالسلام الأول الذي قال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، ثم جمع الأرواح والأشباح والأنوار والأسرار في قبضة عزته ، وخمرها بطينة آدم عليهالسلام في أربعين ألف صباح من صبح الآزال والآباد ، حتى خلقه بخلقه ، وأنشأه بروحه ، فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] ، فباشرت فيه يد الأزل والأبد ، وظهر فيه قدس القدم بجميع الأسماء والصفات والنعوت والأفعال ، فصوره بصورة الملك ، فتتشعب منه أماكن أسرار القديم من خلق الأولين والآخرين ، وهو صورة عين الجمع التي أظهر الحق منها أوصاف قدمه ، ألا ترى إلى قول سيد البشر ـ صلوات الله عليه ـ كيف قال في المتشابهات : «إن الله خلق آدم على صورته» (٢) ، وهو آدم الثاني.
قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ، أخبر عن مقام الجمع بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، ثم أخبر عن التفرقة بقوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).
وبيّن بعض ما أشرنا أستاذ الأستاذين شيخ التمكين عمرو بن عثمان المكي ـ رحمة الله عليه وقدس روحه ـ وقال : إنّ الله خلق العالم ، وهيأه باتساق نظم واحد من أطرافه وأكنافه ، وأوله وآخره ، وبدؤه ومنتهاه ، من أسفله إلى أعلاه ، وجعله بحيث لا خلل فيه ولا تفاوت ولا فطور ، أحكم بناءه باتصال تدبيره ، وحبسه على حدود تقديره وإن اختلفت أجزاؤه في التفرقة والأجسام والهيئات والتخطيط والتصوير ، وفرّقه بتفرقة الأماكن ، وحققه بائتلاف المصالح ، فهو مربوط بحدود تقديره ، ومتتابع باتصال تدبيره ، وبث فيه الأجناس بينهما من شواهد الزينة ، فأظهر القدرة بإيجاد آدم عليهالسلام ، ثم بث أولاده في البسيط إلى تصاريف التدبير لهم والمشيئة ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأعراف : ١٨٩].
وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ، أكّد التحذير ، وبيّن القدرة والتقدير أي : احذروا عمّن هو قادر لإيجاد الخلق من لا شيء ومن شيء ترك مخالفته ؛
__________________
(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٣١١).
(٢) رواه البخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠١٧).