وهو معدن جلاله وجماله ، يتجلى بنور وجهه لقلوب العاشقين والمشتاقين والمحبين ، وذكر الوجه خاصة ؛ لأن القوم في مقام العشق والمحبة والشوق ، ولذلك علقهم بمقام المتشابه لوقوع الأحوال والمكاشفات على مقام الالتباس ، لما كان حالهم العشق في وصفهم بالإرادة ، وعلقهم بصفة من صفاته ؛ لأن العاشقين في جنب العارفين ، والموحدين كقطرات في البحار ، ولو كانوا على محل النهايات ما وصفهم بالإرادة ، ولا علقهم بصفة واحدة من جميع صفاته ؛ لأن العارف خرج من مقام الإرادة التي توجب العبودية إلى مقام الحقيقة التي توجب الربوبية ، ولو كانوا على حدّ الكمال وصفهم بطلب جمع الذات والصفات ، وما وصفهم بطلب صفة واحدة من جميع صفاته.
وقال في موضع قوله تعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي : يريدون الله ؛ لأن اسم الله عين الكل ، وعين الجمع.
وأيضا : وصفهم بإرادة وجهه ، ووجهه سبحانه عن إشارة التشبيه والتعطيل مندرج تحته جميع الصفات من السمع والبصر والكلام ، ويتعلق به جميع الصفات ، وأراد بالوجه عين الكل ، و (وَجْهَهُ) أي : ذاته وصفاته.
ألا ترى إلى قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي : إلا نفسه.
وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] أي : ذاته وصفاته.
وكذا قال أهل التفسير الظاهر : فإذا كان كذلك كان القوم يريدون الله بجميع ذاته وصفاته بوصف المحبة والشوق ، كانوا يريدونه لأنه ـ تعالى ـ يعرّفهم نفسه بنعت مباشرة تجلية قلوبهم ، وهذا مقام قد استأثره الله لنفسه لا لأحد غيره ؛ لأنه ـ تعالى ـ عرف نفسه لا سواه ، غلب عليهم لذّة قربه وخطابه ، فأرادوا كشف كنه القدم ، كما غلب على موسى عليهالسلام حين سأل هذا المقام بعد ذوقه لذّة كلامه تعالى بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، لمّا رآه بالوسائط ، وخرّ من سطوات القدم ، وأفاق بنور البقاء ، فلم ير للحدثان في جنات القدم أثرا تاب عن سؤاله ، فقال : (تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].
ألا أعرفك كما أنت ، وهذا مقام النبي صلىاللهعليهوسلم بعد أن رآه صرفا ؛ حيث قال : «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١).
فلمّا علم سبحانه ذلك منهم أمرهم بالاستغفار وطلب العفو ، كما أخبر عنهم بقوله :
__________________
(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).