واضمحلت العقول في بيداء ألوهيته من إدراك غوامض علمه.
قال أبو يزيد في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) : إن الله احتجب عن القلوب ، كما احتجب عن الأبصار ، فإن أوقع تجليّا فالبصر والفؤاد واحد.
وقيل : معناه أن الله يطّلع على الأبصار بالتجلي لها ؛ لأن الأبصار تسمو إليه.
قال الحسين في قوله : (اللَّطِيفُ) (١) قال : لطف عن الكنه فأنّى له الوصف؟! ومن لطفه ذكره لعبده في الدهور الخالية ؛ إذ السماء مبنية والأرض مدحية.
قيل : سبق الوقت وإظهار الكونين وما فيها ، فهذا معنى لطيف.
وقال القاسم : اللطيف الذي لم يدع أحدا يقف على ماهية سره ، فكيف الوقوف على وصفه؟!
قال ابن عطاء : لا تدركه الفهوم ، وأحاط بكل شيء علما.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) : «لو أن الجنّ والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفّا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا» (٢).
وقال الجنيد : اللطيف من نوّر قلبك بالهدى ، وربّى جسمك بالغذاء ، وجعل لك الولاية في البلوى ، ويحرسك وأنت في اللظى ، ويدخلك جنة المأوى.
وقيل : اللطيف الذي إن دعوته لبّاك ، وإن قصدته آواك ، وإن أحببته أدناك ، وإن أطعته كفاك ، وإن عصيته عافاك ، وإن أعرضت عنه دعاك ، وإن أقبلت إليه هداك.
(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ
__________________
(١) اللطيف من يعطي قدر الكفاية ، وفوق ما يحتاج العبد إليه ، ويقال : من لطفه بالعبد علمه بأنه لطيف ، ولولا لطفه لما عرف أنه لطيف ، ويقال : من لطفه أنه أعطاه فوق الكفاية ، وكلّفه دون الطاقة ، ويقال : من لطفه بالعبد إبهام عاقبته عليه ؛ لأنه لو علم سعادته لاتّكل عليه ، وأقلّ عمله ولو علم شقاوته لأيس ولترك عمله ؛ فأراده أن يستكثر في الوقت من الطاعة ، ويقال : من لطفه بالعبد إخفاء أجله عنه ؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله ، ويقال : من لطفه بالعبد أنه ينسيه ما عمله في الدنيا من الزلّة ؛ لئلا يتنغّص عليه العيش في الجنة ، ويقال : اللطيف من نوّر الأسرار ، وحفظ على عبده ما أودع قلبه من الأسرار ، وغفر له ما عمل من ذنوب في الإعلان والإسرار [تفسير القشيري (٧ / ١٧٧)].
(٢) رواه العقيلي في الضعفاء (١ / ١٤٠).