قال الواسطي : بيان هذه الآية في قوله سبحانه : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٣١] ، فمن لاحظها من نفسه قصمته ، ومن تبرّأ منها عصمته ، كيف يجوز الوجدان بلا حظّ فضلا.
قيل : من علم أنه بالله علم أن لله ، فإن علم نفس لم يبق فيه نصيب لغير الله ، فهو مستسلم لحكم الله غير معترض على تقدير الله ، ولمّا كان عليهالسلام بوصف ما ذكر حيث انفرد بفردانية الله أفرد نفسه لله بحيث لا يرى غير الله بقوله تعالى : (لا شَرِيكَ لَهُ) أي : لا رؤية للغير في البين في ظهور شمس جلاله من مطلع القلب.
قوله تعالى : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) أي : هو يستحق لإفراد قدمه عن الحدوث ، ولا يستحق ذلك لغيره ، ومادام شأنه ذلك خصّ الله جوهره بأول الفطرة التي انقادت لعزته عند ظهور تجلي هيبته الأزلية لها.
قال سبحانه عقيب قوله : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) إشارة إلى تقدم روحه وجوهره على جميع الكون وأهله في الحضرة حين خاطبه بالرسالة والولاية والمحبة والخلة ، فانقاد في أول الأول الأزلي الأبدي ، تعالى الله عما يقولون الظالمون علوّا كبيرا.
وأشار إلى ما ذكرنا قوله عليهالسلام : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» (١) ، وقوله عليهالسلام : «أول ما خلق الله نوري» (٢).
وقيل في قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي : أسلمت لتصاريف قدرته متبرئا من حولي وقوتي ، مع أن التسليم في الحقيقة علّة ، ولمّا كان سابقا على جميع الخلائق في حضرة العزّة بنعت الانقياد بعز ربوبيته ، ومعرفته بجلال ديموميته ، أمره تعالى بأن يعرّف نفسه الشريفة المبرّأة عن علّة الحدثان لجميع الخلائق ؛ ليعرفه كل صادق ، ويطيعه كل محبّ موافق بقوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي : أنا في مشاهدة قدم الله أبغي ستائر على مشاهدته سواه ، حاشا من عظم شأنه أن يكون عوضا لجماله من العرش إلى الثرى.
قال الجوزجاني : أسواه أطلب حافظا وراعيا ووكيلا ، وهو الذي كفاني الهم وألهمني الرشد!
(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي
__________________
(١) ذكره المناوي في فيض القدير (٥ / ٥٤).
(٢) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٣١١).