ولي هنا لطيفة في قوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أضاف رؤيته إلى الله لا إلى نفسه حيث قال : (أَرِنِي) ، إذا ترني جمالك أطيق أن أنظر إليك وإلا فلا فإنه كان لي عالما بعين حديثه لا تحصل رؤية القدم ، فسأل منه تعالى عينا من عيونه يراه بها ، وبها يرى عين العين وكنه الكنه ، وقدم القدم ، وسرّ الذات ، وحقيقة الحقيقة ؛ لأنه لم يره ؛ لأن جميع ذرات موسى عليهالسلام يرى الله ، فلمّا غلب سكره وزاد شوقه سقط عنه رسوم العلم وبقى معه صرف العشق فتحرك لسان البسط بطلب الإطلاع على الحقيقة ، فأجابه الحق سبحانه فقال : (لَنْ تَرانِي) أي : لن تدركني كما أنا ، فإن معك في البين واسطة الحدث وإن كان معك مني عيون الأزلية وأبصار الأبدية ، فأحاله إلى واسطة بقوله : (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ).
وأيضا : ليس قوله : (لَنْ تَرانِي) نفي الرؤية عن موسى عليهالسلام وغيره من المؤمنين ؛ لأن قوله : (لَنْ تَرانِي) أي : لن تراني بإياك ولكن تراني بإياي ، وصدق الله بهذا الخطاب وكيف يراه بين محجوبة بعوارض البشرية رآه به لا بالغير ، فإذا رآه به رأى الحق لموسى عليهالسلام ، ورؤية الله مشاهدته ، وجلاله لموسى عليهالسلام أعظم من رؤية موسى عليهالسلام لموسى عليهالسلام.
وأيضا : لن تراني من حيث أنت إذا أنت لن تراني بوصف القدم والبقاء وسطوات العظمة والكبرياء مادام أنت أنت ، انظر إلى مثلك في الحدوثية وهو الجبل ، انظر إلى الجبل فإن فيك علّة الحدث ولا تريني إلا بواسطة الحدث ، فجعل الجبل مرآة من فعله فتجلّى من صفته لفعله الخاص ثم للجبل ، فرأى موسى عليهالسلام جمال القدم في مرآة الجبل فخرّ ؛ لأنه وصل إلى مقصوده على قدر حاله ، ولو تجلّى لموسى عليهالسلام صرفا لصار موسى عليهالسلام هباء ، ولو تجلّى للجبل صرفا لاحترق الجبل إلى الأرض السابعة ؛ لأنه تعالى تجلّى للجبل من عين العظمة وسبحات الأزلية.
ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١).
وقال صلىاللهعليهوسلم : «إذا تجلى الحق بشيء خضع له» (٢).
قال تعالى : (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) ، قال : وهب أمر الله أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة ، قال : أروه ، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ، ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعا فارتج الجبل واندك ، وكل شجرة كانت فيه ، وخرّ العبد
__________________
(١) رواه مسلم (١ / ١٦١).
(٢) رواه عبد الرزاق في المصنف (٣ / ١٠٥).