كما أراد في زمان الصحو عند سؤاله وجوابه ، ووجده في غيبته وسكره ، وحال صعقته لمّا غاب وسكر استغراق في بحار الأزل والآباد ، وانكشف له سرّ الأسرار ، فالملائكة عدوا من وراء حجاب الفعل في مقام الشريعة ، وكان موسى عليهالسلام في حجر الوصلة غائبا عن الخليقة ، ولو شاهدت الملائكة ذرة من حاله لصعقوا واحترقوا جميعا ، والحمد لله الذي خصّ بديع فطرته وذريته بهذه المثابة دون غيرهم.
وأيضا : لي نكتة عجيبة ، لمّا وجد حلاوة خطاب الأزل واستحلاه طمع في الرؤية لزيادة حلاوته ، ووجدان لذته ، فأصعقته غيرة الأزل من سكوته عنه به وعمّا وجد من برد نسيم وصلته فلمّا أفاق بعد انقطاعه من حلاوته واحتراقه بنيران غيرة توحيده ووحدانيته قال : (سُبْحانَكَ) من أن يطلبك أحد بحظه ولحظه ، (تُبْتُ إِلَيْكَ) ألا أسالك إلا لك فرد بفرد فإن حلاوة المشاهدة حجاب المشاهدة ، ألا ترى إلى قول بعض الموحدين في وصف موحده حيث وصفه فقال سبحانه : «من حسنة حجاب حسنه» (١).
قال بعضهم في قوله : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) فهو أشد منك جسدا ، وأعظم منك خلقا ، وأهيب منك منظرا ، فإن ثبت لرؤيتي تثبت ، ولا يحملني ولا يصبر على مشاهدتي شيء إلا قلوب العارفين التي زيّنتها بمعرفتي ، وأيدتها بأنواع كراماتي ، وقدستها بنظري ، ونورتها بنوري ، فإن حملني شيء فصير لمشاهدتي في تلك القلوب دون غيرها ؛ لذلك قال المصطفى صلىاللهعليهوسلم : «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» (٢).
ثم إذا حملني فتلك القلوب وصبرت لمشاهدتي وأنا حاملي لا غير إذ بي حملني وبإياي صبر لمشاهدتي ، فلا مشاهد للحق سواه ، جلّ ربنا وتعالى.
وقال ابن عطاء : شغله بالجبل ثم تجلّى ، ولو لم يشغله بالجبل لمات وقت التجلّي.
وقال الحسين في قوله : (لَنْ تَرانِي) لو ترك على ذلك ليقطع شوقا ولكن سكنه بقوله : (وَلكِنِ).
وقال ابن عطاء : انبسط إلى ربه في معاني الرؤية لمّا ظهر عليه عن الكلام ولم ينطق بإياه ، ألا تراه أنه لما رجع إلى وصفه رجع إلى أوائل المقامات ، فقال : (تُبْتُ إِلَيْكَ).
قال النصر آبادي : ما قطع موسى عليهالسلام عن الرؤية إلى نظره إلى الجبل ، ولو تحقق بسؤال الرؤية لمّا كان يرجع منه إلى شيء سواه.
__________________
(١) هكذا في الأصل ، ولم أجد له أثر فيمن خرجه.
(٢) تقدم تخريجه.