وقال الواسطي : لم يزال المقصود ممتنعا من الاستغراق ، ألا ترى إلى قول موسى عليهالسلام (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) قيل معناه : (لَنْ تَرانِي) بالسؤال والدعاء ، وإنما تراني بالنوال والعطاء ؛ لأنه لو أعطاه إياه لسؤاله لكانت الرؤية مكافأة السؤال ، ويجوز أن يكون فعله مكافأة فعل عبده ، ولا يجوز أن يكون هو مكافأة فعل عبده.
قال بعضهم : برق برقة من النور فصاحت الجبال وانقطعت وغارت البحار ، وانخمدت النيران ، وانكشفت الشمس ؛ فصعق موسى عليهالسلام ، فكيف كان يطيق موسى عليهالسلام ويثبت لمّا لم يثبت لها الجبال الرواسي ، وإنما كانت برقة.
روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قرأ هذه الآية فقال : «هكذا ، ووضع الإبهام على مفصل الأعلى من الخنصر فصاح الجبل» (١).
قال أبو سعيد الخراز : إن الله لا يتجلّى بالكشف فمن يقوم له ؛ لذلك تقطع الجبل حين تجلّى له ، وخرّ موسى عليهالسلام صعقا ، فإنما نظر إلى أوليائه بالخصوصية من وراء الحجاب إذ أقبل عليهم بالرحمة والمحبة ، فهناك يصل إليهم العلم الكثير والفوائد.
قال علي عن أبيه عن جعفر قال : لمّا سمع الكليم الكلام ، واستولى على ذلك المقام سمع كلام الملك العلام ، قال بلسان الدلال على بساط الوصال تحت ظلال الجلال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فإني بين يديك ، فأجابه ربه : (لَنْ تَرانِي) الآن في غير الوقت ، بل تراني ببرهاني وشواهدي فإنك الآن لا تحتمل نور جلالي وسلطاني.
(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) لترى عجائب قدرتي ، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) فصار بأربع قطع ، وتبددت في أربع مواطن ، فتقطع قلب موسى عليهالسلام بأربع قطع ، قطعة سقطت في بحر الهيبة ، وقطعه سقطت في روضة المحبة ، وقطعة سقطت في بساتين رؤية المنّة ، وقطعة سقطت في أودية القدرة.
(فَلَمَّا أَفاقَ) خرج عن الشدة وصاح إليه بالتعظيم ، بلسان الحياء (تُبْتُ) أن أسألك سؤال المحال في غير الوقت.
وقال ابن عطاء : علم الله تعالى منه عجزه عن إقامة حق إرادته وما طلبه ، فقال سبحانه : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) فلمّا رأى الجبل قد صار دكا صعق ، ولو صحت منه تلك الإرادة ، وذلك السؤال لما كان تردعه عن ذلك ألف صعقة ، بل كان يقوم على مراده وسؤاله وطلبته.
__________________
(١) لم أقف عليه.