وكنت مصطفا على الخلق لا بسابقة سبقت لك إليّ ، بل بسابقة مني إليك.
وأيضا : كن من العارفين بمشكورك ، فإن المعرفة بالمشكور هو الشكر لا غير.
وقال الأستاذ في قوله : (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إشارة لطيفة ، قال : لا تكن من الشاكين ولا ممن يشكو ، يعني : أن منعتك عن سؤالك ، ولم أعطك مطلوبك ، لا تشتكي إذا انصرفت ، وأنشد في معناه :
إن أعرضوا فهم الذين تعطفواكم |
|
قد وفّوا فأصبر لهم إن خلفوا |
ثم إن الله ذكر زيادة نعمه عليه بأن عرفه مواضع حقائق علومه الغيبية وأسراره العجيبة ، وأنبائه الغريبة الأزلية بقوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ).
في قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ) إشارة عجيبة ، أي : كتبنا أسرارنا له لأنه أهلها ، عارف بها وغيره مقلده ؛ لأن أسرار الخطاب إشارات الأزلية إلى حكم الأبدية ولا يعرفها إلا من كان مصطفى ومصطنعا لها ؛ ولذلك قال : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) و (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي).
ومعنى قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) إشارة إلى ألواح الصفات والذات ، كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) التي خصصناه بما في علومنا الأزلية في الأزل.
وأيضا : أي كتبنا في ألواح أنوار قلبه من نقوش حروف أسرار الوحدانية ، ومن كل شيء إشارة إلى علوم الذات والصفات والأفعال ؛ لأنه تعالى شيء الأشياء ، أي : علمناه علم ما كان وما سيكون من العرش إلى الثرى ، موعظة بلسانه للعارفين والعاشقين والمشتاقين الذين يتعرفون طرق وصالنا.
(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : مبيّن غوامض بطون الأشياء ، ومفسر إشارات السرمدية الأزلية ، فلمّا أعظم أقدار كلامه في قلبه وعينه ، وعرّفهما مكان شكره فيه أمره أن يقبل إليه به لا بنفسه ؛ ليعرف به لا بنفسه ، ويعمل به لا بنفسه بقوله : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي : هذه أثقال الربوبية ومرجى أمر الأزلية.
__________________
من مرضاتي في تمهيد شرائعي وإنفاذ أوامري ما يفعله من يصنع للنفس من غير مشارك ، فهو تمثيل لما حوله من منزلة التقريب والتكريم ، نظم الدرر (٥ / ٢٤٢).