قال الأستاذ : يظهر الأعداء في صدّ الخلّة ، ثم بردّهم إلى سوابق القسمة ، ويبرز الأولياء بنعت الخلاف والزلّة ، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة.
ويقال : أقامه في حجال القربة ، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدّ له من سابق التقدير ، فأصبح والكل دون رتبته ، وأمسى والكلب فوقه مع خساسته ، وفي معناه أنشدوا :
فبتنا بخير والدّنا مطمئنّة |
|
وأصبحت يوما والزمان تقلّبا |
ثمّ إنّ الله سبحانه علّق ضلالته بالقسمة السابقة ، والمشيئة الأزلية التي لا تتأثر بتأثير الاكتساب بقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها).
أي : ولو شئنا في الأزل اصطفائيته لولايتنا لم يؤثر فيها مخالفة الظاهر ؛ لأنّ قسمة الأزل تقصم تواترات الطبيعة ، وتتّصل بالعناية الأبدية ، والرعاية السرمدية ، وليس تقاعده عن طاعة مولاه علّة المشيئة ، بل المشيئة علة عصيانه.
قال ابن عطاء : ولو جرى له في حكم الأزل السعادة ، لأثر ذلك عليه في عواقب سعيه وكدحه في أواخر أحواله.
وقال الأستاذ : لو ساعدته المشيئة بالسعادة الأزلية لم تلحقه الشقاوة الأبدية ، ولكن من قصمته السوابق لم تسعفه اللواحق ، وصدق سبحانه بآية أخرى ما ذكرنا في الآية ، بقوله :
(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : من اجتباه الله بقربه ومعرفته في الأزل ، فجميع أمره على نظام تلك الاجتبائية.
قال بعضهم : ليس الناجي من سعى ، وأحسن السعي ، إنما الناجي من سبقت له الهداية من الهادي.
قال الله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) ، ثم وصف الخاسرين بأنهم محجوبون عن ساحة كبريائه ، ورؤية جلاله ، بقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي : قلوبهم محجوبة عن مشاهدة الغيوب ، ولو أدركت تلك المشاهد لذاقت طعم الوصال ، وفهمت حقائق معالي النوال ، وعيونهم في غواشي الشهوات ، ولو خرجت منها لأبصرت أنوار الصفات ، وما التفتت منها إلى جميع المرادات ، وآذانهم في أثقال الغفلات ، ولو خرجت من تحتها لسمعت أصوات الوصلة ، وألحان هواتف بلابل القربة ، وطابت بسماعها وصاعت من جميع الملاهي.
قيل : لهم قلوب لا يفقهون بها شواهد الحق ، ولهم أعين لا يبصرون بها دلائل الحق ، ولهم آذان لا يسمعون بها دعوة الحق ، ثم وصفهم بأنهم أغفل من البهائم في الضلالة ؛ لأن للبهائم استعداد قبول التأديب فيقبلون التأديب ، ولهم أيضا استعداد قبول التأديب ، ولا