اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) : الذين شاهدوا بأرواحهم مشاهدة الأزل ، حين عرّف سبحانه نفسه لها بتحقيق الخطاب ، بقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢].
قالوا : بلى ، فصحبتها أنوار مشاهدته من الأزل إلى الأبد بنعت المعاينة ، وحلاوة السماع ، ومواجيد واردات القرب ، مع اتّصال نور الغيب على السرمدية ، وهاجروا عن حظوظ طباعها من الأكوان والحدثان ، وجاهدوا في مكابدتها في محلّ الامتحان مع النفس ، والشيطان لرضا الرحمن ، وخوف الهجران ، فلما اتّصفوا بهذه الأوصاف حصل لهم حقائق الإيمان والعرفان ، وسمّاهم محقّقين في الإيقان ، بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ).
ثم ذكر امتنانه عليهم بغفرانه حركات ضمائرهم في وقت الامتحان ، وتقصيرهم في حقيقة العرفان ، وكشف جماله لهم في مرآة البرهان ، بقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : سترهم عن عين القهر ، حتى لا تصل إليهم ضرب عين القهريات ، ورزقهم رزق قربه بكشف المواصلات.
قال أبو يزيد : جهاد النفس في هجرانها نزعها عن المألوفات ، وإجراؤها على سبيل الله بإسقاط العلائق عن المال والأهل ، وذلك قوله تعالى : (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا).
وقال بعضهم : أي : فارقوا قرناء السوء ، والأعمال القبيحة ، والدعاوى الباطلة.
قال بعضهم : آمنوا ببذل القلوب لله ، وهاجروا ببذل الأملاك لله ، وجاهدوا ، وابذلوا الروح لله في سبيل الله ، فمن بذل قلبه لمحبّته ، وبذل ملكه لرضاه ، وبذل نفسه وروحه لإعزاز دينه كان محبّا حقيقة ، ومن كان محبّا حقيقة كان مؤمنا حقّا.
قال أبو بكر الوراق : فضّل أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم بشيئين : بصحبتهم مع النبي صلىاللهعليهوسلم والمجاهدة معه ، وهجرانهم إلى الله بالسرائر ، وغربتهم مع أنفسهم.
ألا ترى الله تعالى يقول : الذين أمنوا من طوارق الخذلان ، وهاجروا بقلوبهم في ملكوت الغيوب ، وجاهدوا أنفسهم على طاعة رسوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ، حقيقة إيمانهم ما قدم من الثناء عليهم ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
بيّن سبحانه أن ميراث الأولياء والصدّيقين من العلوم الغيبيّة ، والحكم الغريبة ،