وقال البغداديون : يقبض أي يوحش أهل صفوته من رؤية الكرامات ليصغرهم ، يبسطهم بالنظر إلى الكرم.
(وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : بعد ما مكننا بنور المعرفة ، وذوق المحبة ، ومصاحبة المرسلين ، وآيات النبوة ، وإدراك مقام الشهادة ، وأيضا أي بعد معرفتنا أن الله تعالى مع أوليائه براية النصر والظفر ، وأن من أوصاف أهل المحبة المحاربة مع أعدائه.
وقال فارس : لا يتجرد للحق من هو قائم مع الحق بسبب أو علاقة أو سكون أو مسكن.
(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ...) الآية امتحنهم بمجاهدة نفوسهم قبل محاربة عدوهم ، لينظر كيف يكون خلوصهم من جهاد الأكبر قبل شروعهم في جهاد الأصغر ؛ لأن من يعجز عن مجاهدة نفسه لا يصلح لمحاربة غيره ، وتصديق ذلك قوله تعالى في حق المبتلين الذين تجاوزوا عن الحد الذي سنن لهم وشربوا من النهر أكثر ما أمرهم (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) والذين أخرجوا عن محاربة نفوسهم ، وصرعوها في ميادين الذل والإهانة ، فيصلحون لجهاد الكفار ، كما قال الله تعالى : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) وهذا مثل ضربه الله للدنيا ومن يطلبها ؛ لأن الدنيا نهر الشهوات ، أجرى الله تعالى بين الخلائق لامتحان العباد ليضل بها قوما ويهدي بها قوما ، من شرب منها بقدر الضرورة لقوة العبادة يعبرها بشرط الانفراد ، فإنه من أهل الإيقان والعرفان ، ويهدي إلى مشاهدة