الرحمن ، ومن شرب منها بفرط الحرص لإبغاء الغفلة قوة للمعصية ، يضل عن سبيل الرشاد ، ولا يملأ جوفه منه أبدا حتى يدخل إلى النيران ، وضرب الله تعالى أيضا هذا المثل في قصتهم لينظر الناظر فيه بعين الاعتبار ولاقتباس الأنوار (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) الطالوت هنا الروح ، وهي ملك الباطن ، ومثل داوود نبي الله عليهالسلام العقل وجنوده القلب وملك الهام والعلم والفهم والإدراك والخواض ، ومثل جالوت عدو الله الشيطان وجنده خيل الخيال وأعوان الشهوات ، فأمر الله تعالى الروح بالمحاربة معه اختبارا للنفس الأمّارة ، فلمّا فصلت الروح بجنودها ، (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) يعني نهر الشهوة الذي تشرب منه النفس بكأس الغفلة ، وأضافت إليهم الشرب ؛ لأن الروح مقدسة عن رجس البشرية ، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي : ليس من عالم الروحانيات ، وليس من أهل المكاشفة الصفات ، (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : من نور القدس وعالم الأنس ، (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) (١) أي : القلب والحواس والنفس يغترفون بقدر الترفة حتى لم يحترفوا في جوار الروح بنيران المحبة والمواجيد التي يحصل منه نور المعرفة ، (فَشَرِبُوا مِنْهُ) يعني النفس وأعوانها ؛ لأنهم من ملكوت الأرض ، لأجل ذلك مالوا إلى طعمة الطبيعية ، (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي : العقل والملك ؛ لأنهما من ملكوت السماء وليس لها إلا لذة التربية ، أما شرب القلب قدر الكفاية ؛ لأنه ممزوج بخلاصة الجسم ، (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي : الروح والعقل والملك والقلب والحواس ، (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي : بقول أعيان الروح الذين يوقنون كشف العيان بعد مجاهدة الشيطان ، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) كم من فئة قليلة بالعدد معها نور اليقين ، (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) التي ليس معها النصر من عند الله ، (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الذين وقفوا على مراد الحق بنعت الرضا والتسليم ورؤية كرمه القديم وتسليمهم من مباشرتهم حظ مشاهدة الحق.
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي : برز الروح وجندها للشيطان وجنده ، (قالُوا) أي : الذي عاينوا بنور الإيمان جمال المشاهدة ، (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي :
__________________
(١) الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخلق بصحبة الخلق وبالدنيا وبالنّفس ، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدّ الاضطرار بمقدار القوام ، وما لابد منه نجا وسلم ، ومن جاوز حد الاضطرار وانبسط في صحبته مع شيء من ذلك من الدنيا والنفس والخلق بموجب الشهادة والاختيار ـ فليس من الله في شيء إن كان ارتكاب محظور ، وليس من هذه الطريق في شيء إن كان على جهة الفضيلة وماله منه بدّ.