أى : قم نصف الليل للعبادة لربك ، واجعل النصف الثاني من الليل لراحتك ونومك ...
ووصف ـ سبحانه ـ هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال (إِلَّا قَلِيلاً) للإشعار بأن النصف الآخر ، العامر بالعبادة والصلاة ... هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله ـ تعالى ـ بالنسبة للنصف الثاني المتخذ للراحة والنوم.
وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ...) تخيير له صلىاللهعليهوسلم فيما يفعله ، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإسلام من يسر وسماحة ...
فكأنه ـ تعالى ـ يقول له على سبيل التلطف والإرشاد إلى ما يشرح صدره ـ يا أيها المتلفف بثيابه ، قم الليل للعبادة والصلاة ، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك ، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل ، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون في حدود ثلث الليل ، ولك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تزيد على ذلك ، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة ، وثلثه للنوم والراحة ...
فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد رخص لنبيه صلىاللهعليهوسلم في أن يجعل نصف الليل أو ثلثه ، أو ثلثيه للعبادة والطاعة. وأن يجعل المقدار الباقي من الليل للنوم والراحة ...
وخص ـ سبحانه ـ الليل بالقيام ، لأنه وقت سكون الأصوات ... فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا ، وأدعى لصفاء النفس ، وطهارة القلب ، وحسن الصلة بالله ـ عزوجل ـ.
هذا ، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته. تعظيما لشأنه ، ومداومة له على مناجاة ربه ، خصوصا في الثلث الأخير من الليل ، يدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١).
وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلىاللهعليهوسلم في قيام الليل وقد أثنى ـ سبحانه ـ عليهم بسبب ذلك في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).
وقد ذكر الإمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام ، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلىاللهعليهوسلم بالليل ، فقالت له : ألست تقرأ هذه السورة ، يا أيها المزمل ...؟.
__________________
(١) سورة الإسراء الآية ٧٩.
(٢) سورة السجدة الآيتان ١٦ ، ١٧.