التف بعضها على بعض لكثرتها وقوتها. فقوله (غُلْباً) بمعنى عظاما ، وأصلها من الغلب بفتحتين ـ ، بمعنى الغلظ ، يقال شجرة غلباء ، وهضبة غلباء. أى : عظيمة مرتفعة. ويقال : حديقة غلباء ، إذا كانت عظيمة الشجر. ويقال : رجل أغلب ، إذا كان غليظ الرقبة.
وأنبتنا فيها ـ أيضا ـ بقدرتنا وفضلنا (فاكِهَةً وَأَبًّا) ... والفاكهة : اسم للثمار التي يتناولها الإنسان على سبيل التفكه والتلذذ ، مثل الرطب والعنب والتفاح.
والأب : اسم للكلأ الذي ترعاه الأنعام ، مأخوذ من أبّ فلان الشيء ، إذا قصده واتجه نحوه ، لحاجته إليه ... والكلأ والعشب يتجه إليه الإنسان بدوابه للرعي.
قال صاحب الكشاف : والأب : المرعى ، لأنه يؤب ، أى : يؤم وينتجع .... وعن أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ أنه سئل عن الأب فقال : أى سماء تظلني ، وأى أرض تقلني ، إذا قلت في كتاب الله مالا علم لي به ...
وعن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قرأ هذه الآية فقال : كل هذا قد عرفنا ، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت في يده وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدرى ما الأب؟ ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه.
فإن قلت : فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ قلت : لم يذهب إلى ذلك ، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم ، فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه ، واستدعاء شكره ، وقد علم من فحوى الآية ، أن الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم ، من النهوض بالشكر لله ـ تعالى ـ على ما تبين لك أو لم يشكل ، مما عدد من نعمه ، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ، ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له ، واكتف بالمعرفة الجملية ، إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ... (١).
وقال بعض العلماء : والذي يتبين لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول لفظ الأب ، وهما من خلص العرب لأحد سببين :
إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسى من استعمالهم ، فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة ، فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتنسى في بعضها ، مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج. فقد قال أنس بن مالك : ما كنا نقول إلا المدية ، حتى سمعت قول
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٠٥.