والأول أولى لقوله ـ تعالى ـ : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ). وحفظ الملائكة إنما هو من حفظه ـ تعالى ـ ، لأنهم لا يحفظون إلا بأمره ـ عزوجل ـ (١).
والمقصود من الآية الكريمة : تحقيق تسجيل أعمال الإنسان عليه ، وأنه سيحاسب عليها وسيجازى عليها بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أعمالها ، أتبع ذلك بأمر الإنسان بالتفكر فيما ينفعه ، بأن يعتبر بأول نشأته ، وليعلم أن من خلقه من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى ، فقال ـ تعالى ـ : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ ..).
والفاء في قوله (فَلْيَنْظُرِ ...) للتفريع على ما تقدم ، وهي بمعنى الفصيحة ، وقوله : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) جواب الاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ (مِمَّ خُلِقَ) والمقصود بالاستفهام هنا : الحث والحض على التفكر والتدبر.
و «دافق» اسم فاعل من الدفق ، وهو الصب للشيء بقوة وسرعة ، يقال : تدفق الماء إذا سال باندفاع وسرعة. والمراد به هنا : الماء الذي يخرج من الرجل ويصب في رحم المرأة.
والصلب : يطلق على فقار الظهر بالنسبة للرجل ، والترائب : جمع تريبة ، وهي العظام التي تكون في أعلى صدر المرأة ، ويعبرون عنها بقولهم موضع القلادة من المرأة.
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم ـ أيها الناس ـ ، من أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أقوالها وأفعالها .. فلينظر الإنسان منكم نظر تأمل وتدبر واعتبار ، وليسأل نفسه من أى شيء خلق؟ لقد خلقه الله ـ تعالى ـ بقدرته ، من ماء متدفق ، يخرج بقوة وسرعة من الرجل ، ليصب في رحم الأنثى.
وهذا الماء الدافق من صفاته أنه يخرج من بين صلب الرجل ، ومن بين ترائب المرأة ، حيث يختلط الماءان ، ويتكون منهما الإنسان في مراحله المختلفة بقدرة الله ـ تعالى ـ.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : (فَلْيَنْظُرِ) بما قبله؟.
قلت : وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا ، أتبعه بتوصية الإنسان بالنظر
__________________
(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٤١٩.