في أول أمره. ونشأته الأولى ، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.
«مم خلق» استفهام جوابه : «خلق من ماء دافق» ، والدفق : صبّ فيه دفع. ومعنى «دافق» النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق ، كاللابن والتامر. أو الإسناد المجازى ، والدفق في الحقيقة لصاحبه.
ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم ، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه ... (١).
وقال بعض العلماء : قوله : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أى : من ماء ذي دفق .. وكل من منى الرجل. ومنى المرأة ، اللذين يتخلق منهما الجنين ، ذو دفق في الرحم.
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أى : يخرج هذا الماء الدافق ، من بين صلب كل واحد منهما ، وترائب كل منهما. أى : أن أعضاء وقوى كل منهما ، تتعاون في تكوين ما هو مبدأ لتوالد الإنسان : ماء الرجل وهو المنى ، ومادة المرأة وهي البويضة المصحوبة بالسائل ، المنصبان بدفع وسيلان سريع إلى الرحم عند الاتصال الجنسي. ويسمى الفقهاء هذه المادة منيا وماء .. (٢).
وقال فضيلة الشيخ ابن عاشور : وأطنب ـ سبحانه ـ في وصف هذا الماء الدافق ، لإدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ، ليستيقظ الجاهل الكافر ، ويزداد المؤمن علما ويقينا.
ووصف بأنه (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) ، لأن الناس لا يتفطنون لذلك .. وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن ، الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم ، وهو إشارة مجملة ، وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن احتلام المرأة فقال : «تغتسل إذا أبصرت الماء. فقيل له : أترى المرأة ذلك؟ فقال : وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك ، إذا علا ماء المرأة ماء الرجل ، أشبه الولد أخواله ، وإذا علا ماء الرجل ماءها ، أشبه أعمامه» (٣).
وقال صاحب الظلال : ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر ، حتى كان نصف القرن الأخير ، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية ، يتكون ماء الرجل. وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة ، حيث
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٣٥.
(٢) صفوة البيان ج ٢ ص ٥٣٠ لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.
(٣) راجع تفسير التحرير والتنوير ج ٣٠ ص ٢٦٣ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.