وما ذهب إليه الإمامان : ابن جرير والقرطبي ، من أن المراد بالتين والزيتون ، حقيقتهما ، هو الذي نميل إليه ، لأنه هو الظاهر من معنى اللفظ ، ولأنه ليس هناك من ضرورة تحمل على مخالفته ، ولله ـ تعالى ـ أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، فهو صاحب الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين.
وجملة : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ....) وما عطف عليه جواب القسم.
أى : وحق التين الذي هو أحسن الثمار ، صورة وطعما وفائدة ، وحق الزيتون الذي يكفى الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم ، وحق هذا البلد الأمين ، وهو مكة المكرمة ، وحق طور سنين الذي كلم الله ـ تعالى ـ عليه نبيه موسى تكليما ... وحق هذه الأشياء ... لقد خلقنا الإنسان في أعدل قامة ، وأجمل صورة ، وأحسن هيئة ، ومنحناه بعد ذلك ما لم نمنحه لغيره ، من بيان فصيح ، ومن عقل راجح ، ومن علم واسع ، ومن إرادة وقدرة على تحقيق ما يبتغيه في هذه الحياة ، بإذننا ومشيئتنا.
والتقويم في الأصل : تصيير الشيء على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها في التعديل والتركيب. تقول : قومت الشيء تقويما ، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها ... في التعديل والتركيب. تقول : قومت الشيء تقويما ، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها ... وهذا الحسن يشمل الظاهر والباطن للإنسان ...
والمراد بالإنسان هنا : جنسه. أى : لقد خلقنا ـ بقدرتنا وحكمتنا ـ جنس الإنسان في أكمل صورة ، وأحكم عقل ...
وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) معطوف على ما قبله وداخل في حيز القسم. وضمير الغائب يعود إلى الإنسان ...
وحقيقة الرد : إرجاع الشيء إلى مكانه السابق ، والمراد به هنا : تصيير الإنسان على حالة غير الحالة التي كان عليها ، وأسفل : أفعل تفضيل ، أى : أشد سفالة مما كان يتوقع.
وللمفسرين في هذه الآية الكريمة اتجاهات منها : أن المراد بالرد هنا : الرد إلى الكبر والضعف ، كما قال ـ تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (١).
وعلى هذا الرأى يكون المردودون إلى أسفل سافلين ، أى : إلى أرذل العمر ، هم بعض أفراد جنس الإنسان ، لأنه من المشاهد أن بعض الناس هم الذين يعيشون تلك الفترة الطويلة
__________________
(١) سورة الروم الآية ٥٤.