بالفسق ففسقوا ، وأطال الكلام في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير ، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل أمرته فعصاني ، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية ، لأن المعصية منافية للأمر مناقضة له ، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق ، لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ويناقضه. القول الثاني : أن معنى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أكثرنا فسّاقها. قال الواحدي : تقول العرب : أمر القوم إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا أكثرهم. وقد قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية والربيع ومجاهد والحسن (أَمَرْنا) بتشديد الميم ، أي : جعلناهم أمراء مسلّطين. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعليّ وابن عباس «آمرنا» بالمدّ والتخفيف ، أي : أكثرنا جبابرتها وأمراءها ، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة : آمرته بالمدّ وأمرته لغتان بمعنى كثرته ، ومنه الحديث : «خير المال مهرة مأمورة» أي : كثيرة النتاج والنسل ، وكذا قال ابن عزيز. وقرأ الحسن أيضا ويحيى بن يعمر «أمرنا» بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. قال قتادة والحسن : المعنى أكثرنا. وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد ، وأنكره الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمدّ. قال في الصحاح : وقال أبو الحسن : أمر ماله ـ بالكسر ـ أي : كثر ، وأمر القوم : أي كثروا ، ومنه قول لبيد :
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا |
|
يوما يصيروا للهلك والنّكد (١) |
وقرأ الجمهور (أَمَرْنا) من الأمر ، ومعناه ما قدّمنا في القول الأوّل ، ومعنى (مُتْرَفِيها) المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش ، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين : إنهم الجبارون المتسلطون والملوك الجائرون ، قالوا : وإنما خصّوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم ، ومعنى (فَفَسَقُوا فِيها) خرجوا عن الطاعة ، وتمردوا في كفرهم ؛ لأن الفسوق الخروج إلى ما هو أفحش (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : ثبت وتحقق عليهم العذاب بعد ظهور فسقهم (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي : تدميرا عظيما لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه ؛ وقد قيل في تأويل أمرنا بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق ، وهو إدرار النعم عليهم ؛ وقيل أيضا : إن المراد بأردنا أن نهلك قرية أنه قرب إهلاك قرية ، وهو عدول عن الظاهر بدون ملجئ إليه. ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية ، فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) أي : كثيرا ما أهلكنا منهم ، ف «كم» مفعول «أهلكنا» ، و «من القرون» بيان ل «كم» وتمييز له ، أي : كم من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود ، فحلّ بهم البوار ، ونزل بهم سوط العذاب ، وفيه تخويف لكفار مكة. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال : (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) قال الفراء : إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذمّ به ، كقولك : كفاك ، وأكرم به رجلا ، وطاب بطعامك طعاما ، ولا يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة ، وتخويف شديد لأهل
__________________
(١). في المطبوع : يوما يكن للهلاك والفند. والمثبت من الديوان ص (١٦٠). «يهبطوا» ـ هنا ـ : يموتوا.