من الدنيا ما لا ينالون ، ويتمنون ما لا يصلون إليه ؛ والقيد الثاني : قوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) أي : لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا ، وجملة (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من الضمير في له بإعادة الجار ؛ بدل البعض من الكل ؛ لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو للعموم ، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة ، كقوله سبحانه : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) (١). (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (٢). وقد قيل : إنه قرئ «ما يشاء» بالياء التحتية ، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذّ ، وعلى هذه القراءة قيل : الضمير لله سبحانه ، أي : ما يشاؤه الله ، فيكون معناها معنى القراءة بالنون ، وفيه بعد لمخالفته لما قبله ، وهو عجلنا وما بعده وهو لمن نريد ؛ وقيل : الضمير راجع إلى من في قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) فيكون ذلك مقيدا بقوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) ؛ أي : عجلنا له ما يشاؤه ، لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلا إذا أراد الله له ذلك ، ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلا بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم ، ولهذا قال : (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي : جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه (يَصْلاها) في محل نصب على الحال ، أي : يدخلها (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي : مطرودا من رحمة الله مبعدا عنها ، فهذه عقوبته في الآخرة مع أنه لا ينال من الدنيا إلا ما قدره الله سبحانه له ، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ؟ فإنه ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع ، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه ، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه ، وهو الجنة ، ولهذا قال : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) أي : أراد بأعماله الدار الآخرة (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي : السعي الحقيق بها اللائق بطالبها ، وهو الإتيان بما أمر به وترك ما نهى عنه خالصا لله غير مشوب ، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله إيمانا صحيحا ، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلا إذا كان من المؤمنين (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣) والجملة في محل نصب على الحال ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) عند الله ، أي : مقبولا غير مردود ؛ وقيل : مضاعفا إلى أضعاف كثيرة ، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكورا أمورا ثلاثة : الأول : إرادة الآخرة. الثاني : أن يسعى لها السعي الذي يحقّ لها. والثالث : أن يكون مؤمنا. ثم بيّن سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته ، فقال : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) التنوين في كلا عوض عن المضاف إليه ، والتقدير : كل واحد من الفريقين نمدّ ، أي : نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع ، نرزق المؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية ، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه ، وما به الإمداد : هو ما عجله لمن يريد الدنيا ، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة ، وفي قوله : (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل ، وهو متعلق بنمدّ (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي : ممنوعا ، يقال : حظره يحظره حظرا ؛ منعه ، وكل ما حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك ، و (هؤُلاءِ)
__________________
(١). الشورى : ٢٠.
(٢). هود : ١٥.
(٣). المائدة : ٢٧.