بدل من (كُلًّا) و (هؤُلاءِ) معطوف على البدل. قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أنه يعطي المسلم والكافر وأنه يرزقهما جميعا الفريقين ، فقال : (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الخطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار ، وهذه الجملة مقررة لما مرّ من الإمداد وموضحة له ؛ والمعنى : انظر كيف فضّلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض ، فمن غنيّ وفقير ، وقوي وضعيف ، وصحيح ومريض وعاقل وأحمق وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا. وقيل : المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين. وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما. ثم لما أجمل سبحانه أعمال البرّ في قوله : (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أخذ في تفصيل ذلك مبتدئا بأشرفها الذي هو التوحيد فقال : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) والخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والمراد به أمته تهييجا وإلهابا ، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه ؛ وقيل : هو على إضمار القول ، والتقدير : قل لكل مكلّف لا تجعل ، وانتصاب تقعد على جواب النهي ، والتقدير : لا يكن منك جعل فقعود ؛ ومعنى تقعد تصير ، من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة ، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام ؛ وقيل : هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات ، فإن السعي فيه إنما يتأتّى بالقيام ، والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعدا عن الطلب ؛ وقيل : إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما مفكرا على ما فرط منه ، فالقعود على هذا حقيقة ، وانتصاب (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) على خبرية تقعد أو على الحال ، أي : فتصير جامعا بين الأمرين الذمّ لك من الله ومن ملائكته ، ومن صالحي عباده ، والخذلان لك منه سبحانه ، أو حال كونك جامعا بين الأمرين. ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال : (وَقَضى رَبُّكَ) أي : أمر أمرا جزما ، وحكما قطعا ، وحتما مبرما (أَلَّا تَعْبُدُوا) أي : بأن لا تعبدوا ، فتكون أن ناصبة ، ويجوز أن تكون مفسرة ولا نهي. وقرئ ووصّى ربك أي : وصّى عباده بعبادته وحده ، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو وأحسنوا بهما إحسانا ، ولا يجوز أن يتعلّق بالوالدين بإحسانا ، لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلّق به. قيل : ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولّد بينهما ، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قرينا لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقّهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى ، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترنا بشكره فقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (١) ، ثم خصّ سبحانه حالة الكبر بالذّكر لكونها إلى البرّ من الولد أحوج من غيرها فقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) إما مركبة من إن الشرطية وما الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة (٢). قال النحويون : إن الشرط يشبه النهي من
__________________
(١). لقمان : ١٤.
(٢). قال الرازي في تفسيره : المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما ألا يقع.